TT

فلنبدأ بالخيال العلمي.. لتنمية الإبداع والموهبة

يعد الخيال العلمي (Science Fiction) من علوم المستقبل المهمة في تطور العلم والتكنولوجيا، كما أنه أحد المداخل المهمة والحديثة حاليا لتنمية الإبداع وإعداد العلماء بالدول المتقدمة، ولعل أخطر الثغرات التي تعانيها نظم التعليم في عالمنا العربي تكمن في عدم إعطاء الخيال والإبداع حقهما من الاهتمام، ولهذا يعد الخيال العلمي والإبداع من مجالات البحث الضرورية لضمان تزويد عالمنا العربي بجيل من العلماء والمبدعين في شتى مجالات العلم والمعرفة، وبخاصة النبوغ في العلوم، حتى نضمن لنا مكانا مرموقا في عالم الحاضر والمستقبل.
يقول عالم الفضاء والجيولوجيا العربي الدكتور فاروق الباز، في تقديمه لكتابي (بالاشتراك) بعنوان «الخيال العلمي وتنمية الإبداع»، إن الخيال العلمي يمثل إحدى المبادرات الأدبية الفريدة، وإنه من صفات الإنسان المفكر الذي لا يكبح جماح عقله أي حدود، وقال بأن الخيال العلمي يضيف الكثير إلى حب التمعن والتساؤل الذي يشجع الطفل على البحث عن مزيد من المعرفة، وضرب لأهمية وقيمة الخيال العلمي بمثال أثناء عمله في برنامج «أبوللو» لاستكشاف القمر بين عامي 1967 و1972، حيث أكد على الدور المهم الذي لعبه الخيال العلمي في إلهام رواد «برنامج أبوللو» في تصميم مركبات أبوللو والهبوط على سطح القمر، فقال بأنه، أثناء عمله في برنامج «أبوللو»، اطلع زميل على نسخة من رواية «من الأرض إلى القمر» لرائد الخيال العلمي المبدع الفرنسي جول فيرن، التي كتبها عام 1865، وكانت هذه النسخة من أوائل الطبعات وشملت رسومات طلبها وحققها «فيرن» بنفسه، واتضح بدراستها أنها تقارب بشكل كبير الحقائق الواقعة في الستينات بشأن تصميم مركبات أبوللو والهبوط على سطح القمر، ووقتها أصدرت مجلة «لايف» Life الأميركية ألبوما للرسومات القديمة والحديثة معا.
وقال الدكتور الباز في تقديمه للكتاب بأنه بمناقشة ذلك مع مدير مشروع «أبوللو»، قال إنهم كانوا في الصغر يحرصون على قراءة أعمال الكاتب «جول فيرن»، ولهذا انطبعت رسومات وأشكال رواية فيرن «من الأرض إلى القمر» في ذاكرتهم، ولما حان الوقت لإعداد مركبات «أبوللو» انبثق كل ذلك وأثر بشكل كبير على تصميماتها. وقد أدركت الدول المتقدمة قيمة وأهمية الخيال العلمي في إعداد وتنشئة العلماء والمبدعين، فقامت بافتتاح مراكز لدراسة الخيال، وأقسام دراسية بالجامعات في تخصص «أدب الخيال العلمي»، كما قامت بإدراج الخيال العلمي في مناهج التعليم. يقول العالم العربي الدكتور أحمد زويل - الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1999 – إن «الجميل في أميركا، وهو ما جعلها تتقدم على العالم علميا، أن الخيال لا يقتل وليست له حدود وكل المؤسسات تشجعه، والعالم الحقيقي المحب لعلمه لا بد أن يحلم، وإذا لم يتخيل العالم ويحلم فسيفعل ما فعله السابقون ولن يضيف شيئا».
ومن العوامل التي تجعل أدب الخيال العلمي أمرا حيويا في الفصل المدرسي، الأهمية المتزايدة التي يوليها العالم حاليا للدراسات المستقبلية، حيث إن هناك همزة وصل بين الخيال العلمي ودراسات المستقبل، فكلاهما يسعى للتنبؤ بالمستقبل، ولهذا يقول كاتب المستقبليات الأميركي ألفن توفلر بأن «قراءة الخيال العلمي أمر لازم للمستقبل». فالخيال هو القوة الأساسية الفعالة وراء كل إبداع واختراع، ولولا الخيال لما وصلت البشرية إلى ما هي عليه الآن، ولهذا بدأت الدراسات والبحوث المتصلة بالخيال تستعيد قوتها وترتبط بشدة بالإبداع والابتكار، خاصة أنه لا إبداع من دون خيال. فاكتشاف إسحق نيوتن للجاذبية الأرضية، وأوغست كيكولي لحلقة البنزين، وآينشتاين للنسبية، والعربي عباس بن فرناس للطائرة، كل ذلك وغيره كان نتاج الخيال، وقد أطلق على أدب الخيال العلمي الكثير من التسميات، منها أدب المستقبل، وأدب الأفكار، وأدب التوقع والتنبؤ، وأدب التغيير، والأدب الذي يهتم بحال ومصير الجنس البشري، ولا بد هنا أن نفرق بين الفانتازيا أو الخيال الجامح الذي لا يقوم على أي فرضيات مدروسة، ولا يتقيد بحدود ولا قواعد في كتاباته، فهو قائم على رؤى خيالية بالغة الشطط والغرابة، والخيال العلمي المنضبط أو الجاد، القابل للتحقيق، القائم على فرضيات علمية مدروسة يمكن تحقيقها، فالخيال العلمي هو مرآة تعكس أحدث الإنجازات في مجال العلم، ويزود العلم بأفكار يستثمرها ويحيلها لابتكارات واكتشافات جديدة، كما أنه يحذر البشرية من المستقبل وما يحمله في طياته. ويتميز أدب الخيال العلمي الجاد بمستوى عال في الكتابة، وبالحبكة المنطقية والدقة العلمية العالية، ومثال على ذلك رواية «الموعد النهائي»، عام 1944 للكاتب الأميركي كليف كارتميل Cleve Cartmill (1908-1964)؛ فقد استطاع في روايته هذه أن يقدم تصورا مثاليا للخيال العلمي الجاد، تمثل في وصف صناعة قنبلة ذرية، تنفجر بقوة شديدة، يمكنها أن تنهي الحرب العالمية الثانية، في الوقت الذي كانت تقوم فيه الولايات المتحدة بإجراء تجارب في جو من السرية التامة على صناعة القنبلة الذرية، وقد بلغت هذه الرواية من الدقة في تفصيلاتها العلمية ما جعل المخابرات الأميركية تشك في أن الكاتب قد تسلل للمعلومات السرية الخاصة بصناعة هذه القنبلة، ولكن ثبت من التحقيقات أن الكاتب لم يطلع على أسرار صناعة القنبلة، ولكن كان ذلك من أفكاره وخياله الخصب، الذي توقع ما حدث في الواقع. كما أن للخيال دورا مهما في المنهج العلمي وما يسمى التجارب العقلية في العلم، وبخاصة بعد ارتفاع تكاليف البحث العلمي وتقنياته واقتحامه لمجالات دقيقة، كالذرة وأعماق الفضاء، حيث يفترض العلماء «تجربة خيالية» ثم يطرح التساؤل «ماذا يحدث لو؟.. What if؟»، فالخيال العلمي في هذه الحالة عبارة عن «معمل أدبي»، من خلاله يمكن التوصل لحلول للكثير من المسائل والمشكلات، حيث يوجه العلماء نحو أبحاثهم واكتشافاتهم. فعلى سبيل المثال تنبأ رائد الخيال العلمي البريطاني الشهير هـ. ج. ويلز H.G.Wells في روايته «العالم تحرر» The World Set Free عام 1914، باكتشاف الطاقة الذرية وتحررها والإشعاع الصناعي وتطور القنابل الذرية، وكان أول من صاغ واستخدم مصطلح القنبلة الذرية Atomic Bomb في روايته هذه، وبعد ذلك استطاع عالم الفيزياء الأميركي المجري المولد ليو زيلارد Leo Szilard (1898-1964) أن يؤسس على تنبؤات ويلز هذه معادلات نظرية كانت الأساس في مشروع مانهاتن الأميركي Manhattan Project لإنتاج القنبلة الذرية عام 1945. ولهذا فإن كاتب الخيال العلمي البريطاني الشهير آرثر سي. كلارك (1917-2008)، الملقب بـ«أبو فكرة أقمار الاتصالات الصناعية»، يلخص رسالة ووظيفة الخيال العلمي في تنمية مخيلات الأفراد ومنحهم القدرة على التفكير بالمستقبل وتحذيرهم وتهيئة أذهانهم إلى المخاطر الخافية عليهم، وذلك فيما يسمى نظام الإنذار المتقدم An Advance Warning System، فالكثير من أعمال الخيال العلمي تثير الكثير من القضايا العلمية من زاوية أبعادها الاجتماعية وآثارها المستقبلية. كما أن الخيال العلمي يعد إحدى أهم وسائل نشر وتبسيط الثقافة العلمية بأسلوب مبتكر ومشوق، كما أنه ينمي أسلوب التفكير العلمي ويزيد من قدرة الأفراد على إدراك واستيعاب المفاهيم العلمية، وإيجاد اتجاهات وقيم إيجابية لدى الأفراد تجاه العلم والعلماء، مما يدفعهم لتمثل خطاهم وإتاحة الفرصة للمزيد من الاكتشافات والابتكارات.
لقد ساهم الخيال العلمي، وما زال، في استشراف آفاق الحاضر والمستقبل، فالكثير من الاكتشافات والإنجازات العلمية والتكنولوجية التي تحققت خلال النصف الثاني من القرن العشرين، قد سبق التنبؤ بها في أعمال الخيال العلمي منذ أواخر القرن التاسع عشر، مثل أشعة الليزر والذكاء الصناعي وصناعة الروبوت وصناعة القنبلة الذرية وبطاقات الائتمان وغزو الفضاء وزراعة الأعضاء البشرية وأطفال الأنابيب والهندسة الوراثية والعلاج الجيني والاستنساخ والنانوتكنولوجي (التقنيات المتناهية في الصغر)، وغيرها. وهناك حاليا أبحاث جارية بالدول المتقدمة حول رؤى المستقبل لاحتمالات واتجاهات العلم والخيال العلمي في الكثير من المجالات، مثل الحديث عن شكل الأشياء في المستقبل، كملابس ومنازل المستقبل، وشكل وسائل النقل والمواصلات في المستقبل، والأجهزة والآلات الذكية في المستقبل، كالكومبيوتر والإنترنت والهواتف المحمولة، وأيضا الحديث عن الآفاق الواعدة والمرعبة لثورة النانوتكنولوجي، وكذلك رؤى الخيال العلمي للطب والعلاج في المستقبل، ورؤى المستقبل في مجال الفضاء. كما أن الدراسات الحديثة قد بينت الدور المهم للخيال العلمي في تدريس العلوم، حيث توصلت إلى أن قراءة وتدريس قصص وأفلام الخيال العلمي، يعدان ضرورة تربوية مستقبلية، حيث تمكن الطلاب من إدراك واستيعاب وفهم المفاهيم والحقائق العلمية، كما تشكل أهمية خاصة وضرورة مهمة من ضرورات تنمية التفكير العلمي ومهارات التفكير الإبداعي، والتوجه نحو دراسة العلوم وإشاعة المنهج العلمي في المجتمع وإكسابه الرؤية المستقبلية الواعية، فالخيال العلمي يلهب ويثير خيال الطلبة، وبخاصة الموهوبون، ويشجعهم على التفكير في الممكن، وليس مهما إن كان التفكير في الممكن أو المستحيل، فالسفر في الفضاء كان في البداية ممكنا فقط في الخيال العلمي، ثم أصبح حقيقة واقعة بعد ذلك. ويرى الكثير من العلماء أن استخدام أفلام الخيال العلمي في تدريس موضوعات العلوم ضروري لإثارة دافعية الطلاب نحو حب العلم ودراسة العلوم، بدرجة أفضل من طرق التدريس التقليدية، كما أن استخدام الخيال العلمي لفكرة «ماذا يحدث لو..؟» يساعد على جذب اهتمام الطلبة للمقررات الدراسية ويثري المناقشات العلمية، وينمي قدرات التفكير العلمي الابتكاري، والتنبؤ بما سيكون عليه المستقبل، والاستعداد لمواجهته.
إن أدب الخيال العلمي فرصة ثمينة لعالمنا العربي، لا لغرس حب العلم في نفوس الأفراد فحسب، بل أيضا من المداخل الضرورية والمهمة لإعداد الموهوبين والمبدعين في شتى المجالات، فقد أصبح من الضروري الاهتمام بتنمية الخيال العلمي على نحو يجعل تعلم العلوم يصل لدرجة الإبداع، وهو أحد أهم أهداف التربية العلمية الحديثة، ولا بد لتنمية الخيال العلمي من العمل أولا على توسيع نطاق البعد العلمي والثقافة العلمية في ثقافتنا العربية، وفي أساليبنا لتنشئة أبنائنا من خلال تضافر جميع جهود مؤسسات التنشئة، وأن نوضح لأبنائنا كيف أن الإنجازات العلمية الحالية كانت في مراحل سابقة خيالا علميا. إن أفكارا وتصورات وتخيلات كبيرة قد تكون عظيمة في صناعة المستقبل، تموت في مجتمعات تحجم ملكات التخيل والابتكار لدى أبنائها، وتقلل من قيمتها، مما يدفع أصحاب هذه التخيلات والأفكار للهجرة لمجتمعات أخرى تتبنى أفكارهم وتخيلاتهم، وتتيح لهم الفرص والظروف لتطبيقها وتحويلها لواقع يعمل على تقدم مجتمعاتهم. ورغم الأهمية المتزايدة التي يوليها الغرب لأدب الخيال العلمي، فإن عالمنا العربي لم يشهد اهتماما مماثلا أو حتى متناسبا مع تلك الأهمية، فواقع أدب الخيال العلمي في عالمنا العربي يشير إلى أنه مهمش ونادر وما زال متواضعا من حيث الإنتاج وقلة الكتاب المتخصصين، ويرجع أسباب عدم انتشار وذيوع الخيال العلمي في عالمنا العربي إلى أن كاتب هذا النوع من الأدب يحتاج لتواصل مع التطورات العلمية والتكنولوجية الحديثة والثقافة العلمية، وهو ما يفتقده الأديب العربي، كما أن أصحاب القرار الثقافي والمسؤولين عن الثقافة في عالمنا العربي لا يعرفون قيمة وأهمية أدب الخيال العلمي في تطور العلم والتكنولوجيا. لقد أصبح الاهتمام بأدب الخيال العلمي في عالمنا العربي ضرورة عاجلة لتأهيل الجيل الصاعد للإبداع، واللحاق بركب التقدم العلمي والتكنولوجي العالمي، حتى ترتفع راية العرب مرة أخرى في مكان يليق بحضارتنا بين الأمم.

* كاتب وباحث مصري متخصص
في علم النفس والتربية