أمل عبد العزيز الهزاني
أستاذة في جامعة الملك سعود في السعودية. باحثة في علوم الوراثة الجزيئية. خبيرة في الإدارة الأكاديمية. كاتبة سياسية منذ عام 2009. كاتبة مقال أسبوعي في «الشرق الأوسط».
TT

احموا أوطانكم

كلما تعقبت حساب مغرد يبث الكراهية والتحريض ضد الآخرين على الموقع الكاشف «تويتر»، أجده أستاذًا جامعيًا أو باحثًا يسبق اسمه حرف الدال. هذا الحرف الذي كان يرمز للمخزون المعرفي المتحضر، أصبح مشؤومًا، ومحل تهمة حتى يثبت العكس. المنطقة غارقة في النقص المعرفي والعلمي، والعلم في عصر العولمة لا يقابله الجهل، بل التخلف والهمجية. نحن نملك علمًا غير نافع.. بعض العلوم مثل السجائر؛ ترضي في صاحبها هواه، لكنها تملأ صدره بدخان أسود.
إن كان الطالب الشاب يقرأ لأستاذه الذي يراه القدوة والمثل الأعلى، لغة عنصرية طائفية، أو بذيئة طعّانة لعّانة، فماذا ننتظر منه غير اللحاق بركب الضلال؟ جيل الشباب يتعرض اليوم لشر مستطير، تُعرض عليه يوميًا معلومات مغلوطة أو تأويلات مسمومة لتشكيل قناعاته وفق آيديولوجيا منحرفة، لذلك لم ننفك نعاني من الإرهاب منذ حادثة احتلال الحرم من المتطرف جهيمان في السبعينات الماضية وحتى اليوم.
في السعودية خلال الشهر الماضي، والآن الكويت، تلقى الآمنون ضربات إرهابية موجعة في المساجد الشيعية.. ظهرت جثث المصلين منحنية الظهر لأنهم ماتوا سجودًا. ولا يهم تفنيد عقيدة «داعش» التي تقتل المتعبدين باسم الرب، ولكن الأهم هو موقف الناس والحكومات. على الخليجيين أن لا يتوهموا أن تقديم شريحة من السنة العزاء في قتلى الشيعة، يعكس عمق الوحدة الوطنية بين أبناء المذهبين الشيعي والسني.. هذا سراب، ومشهد مسكّن للألم، لأن الحقيقة أن هذه الشريحة المحترمة التي تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه ضعيفة التأثير، تمثل غالبًا حزب الكنبة الصامت، وهي طبيعة إنسانية؛ الطيبون غالبًا ما يلتزمون الصمت.
لنتذكر أنه رغم الدعاية الكبيرة لـ«القاعدة» قبل عقد ونصف، ووجود تأييد لعملها الإرهابي في سبتمبر (أيلول) من قبل طيف واسع من الإسلاميين الذين ألبوا الشباب وأوعزوا لهم بالولاء لأسامة بن لادن، فإن الهجمات الإرهابية التي نفذها تنظيم القاعدة بعد ذلك في السعودية، كشفت أنه عدو متربص، فنفر منه الناس وكرهوا فكره لأنه ضرب أمنهم الشخصي، وهنا خرست ألسنة الإسلاميين الحركيين حتى لا يوصموا بالخيانة العظمى. المقلق اليوم أن «داعش» تضربنا، ولكن ماكينة الدعاية لصالحها لا تزال تعمل بلا خوف، لأن الحكومات المخولة المساءلة والمحاسبة سلبية، والناس مشحونة بالتحريض الطائفي وتجد في «داعش» أداة للانتصار. الفرق بين موضة «القاعدة» وموضة «داعش» هي الطائفية، التي جاءت لصالح الأخير.
المؤيدون لـ«داعش» يباركون أعماله لهدفين؛ الأول لأنه يعمل ضد المذهب الآخر الذي يكفرونه ويستكثرون عليه الحياة والمواطنة، والثاني أنهم يأملون أن «داعش» سيحقق ما عجز عنه ما يعرف بـ«الربيع العربي» من إسقاط للأنظمة الحاكمة في الخليج. وإن أردتم دليلاً على ذلك، فاقرأوا لأصحاب حرف «الدال» الذين يدعون «داعش» إلى دخول بلدانهم لضرب حكامها، ويجمعون أموال البسطاء علنًا تحت عين الدولة لإرسالها لولايات «داعش»، والآخرين الذين يرون فيه «فصيلاً مجاهدًا مؤمنًا، الاختلاف البسيط معه لا يفسد للود قضية، وأنهم أخوتنا لا نكفرهم ولا نستبيح دماهم»! إن لم تكن هذه خيانة، فماذا عسى الخيانة أن تكون؟ ولصوص الحياة هؤلاء لا يبثون سمومهم من باكستان أو أفغانستان أو بريطانيا، هم بيننا.. يبيتون في بيوتهم كل ليلة آمنين مطمئنين بعد نهار حافل بالتحريض والشحن الطائفي.
خلال أعوام مضت، كنت أستمع وأقرأ لمداولات ونقاشات «مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني»، كان تنظيرًا جميلاً رزينًا راقيًا حول أهمية القوانين في تنظيم حياة الناس وتعزيز الاستقرار والتنمية والوحدة الوطنية. والحوارات فرصة لبعضهم لتلميع الذات، ولكن حينما يأتي دور الفعل، تنكشف حقيقة المواقف، كما حصل بمناسبة رفض مجلس الشورى السعودي قبل أيام وبالأغلبية، فكرة نظام لحماية الوحدة الوطنية. البعض أيد هذا الرفض بزعم أن مثل هذه القوانين تحد من حرية التعبير. وهي فعلاً كذلك، لأن الحرية التي سيحرمون منها ستقوض قيمتهم الاجتماعية لدى أتباعهم، وهي حرية التنابز بالألقاب والتصنيف الحزبي والديني كرمي الآخرين بالزندقة والشرك والكفر تمهيدًا للتحريض على قتلهم. غياب النص القانوني الذي يتضمن صراحة عقوبة محددة ضد المحرضين، سيعزز الطائفية لا الوحدة الوطنية، فمن أمِن العقوبة أساء الأدب. إذا قيدهم القانون عن استخدام هذه التوصيفات، فكيف يمكنهم تشكيل رأي عام ضد فئة معينة من مواطنيهم؟ قانون مثل هذا سيفقدهم أهم أدوات قوتهم، وهو التحريض.
وحتى يمكن تمرير هذا الرفض داخل الأوساط الاجتماعية التي تعجبت منه، بادر المؤيدون له إلى الخطة «ب» المعروفة، بادعاء أن مثل هذا القانون سيخدم الليبراليين، خصومهم الوهميين. فضيلة الشيخ ناصر بن زيد بن داود، عضو اللجنة الإسلامية والقضائية في مجلس الشورى، الذي خرج للإعلام مدافعًا عن رأي لجنته التي رأت أهمية النظام وملاءمته للدراسة، ليس ليبراليًا، لكنه مهموم من نقص التشريعات التي تعين الدولة على حماية أمنها. إقحام تصنيف «الليبرالية» في قضية وطنية هو جزء من التحزب الذي يضرب المجتمع ويشق الصف، لأن القلق على الوحدة الوطنية والمطالبة بالقوانين تنظيمًا للعلاقات بين الناس، يفترض أن لا يكون حكرًا على الليبراليين أو غيرهم، بل هو مقصد جماعي.
حينما يسمح للسني أن يؤلب على الشيعي بتكفيره، ويترك الشيعي يمارس مظلوميته على حساب أمن السنة، فمن الطبيعي أن تطال ألسنة اللهب الطائفية كل الخليج. ما تعاني منه السعودية والكويت، وربما هناك دول أخرى مستهدفة قادمة، هو بسبب سكوتها عن عناصر التخريب. جيوش «داعش» من الشباب لم يقدموا حياتهم من أجل أبو بكر البغدادي الذي لا يعرفونه، بل هجروا بلادهم وأهليهم مدفوعين بقناعاتهم الدينية التي اكتسبوها محليا.
«الوطنية»، و«الوطن» و«المواطنة»، مفردات تتضاد مع مصالح الجماعات ذات الأطماع التوسعية كالأحزاب القومية، والنظام الإيراني، وجماعة الإخوان المسلمين، والطائفيين، لأنها تحجم طموحاتهم التي تتجاوز الحدود الجغرافية لبلدانهم، وتضطرهم للجلوس تحت مظلة وطنية واحدة مع مخالفيهم، مما يحتم نهايتهم.

[email protected]