د. حسن محمد صندقجي
طبيب سعودي واستشاري قلب للكبار بمركز الأمير سلطان للقلب في الرياض
TT

أداء المستشفيات بين الواقع وتصورات العاملين فيها

ثمة إشكالية لدى كثير من العاملين في المستشفيات حول دقة تقييمهم الذاتي لأدائهم أو لأداء مستشفياتهم في معالجة المرضى، خاصة أداءهم في معالجة المرضى وفق ما تنص عليه الإرشادات الطبية. وهو ما تعبر عنه الأوساط الطبية بـ«عدم دقة التقييم الذاتي» (Inaccurate Self-Assessment). وتبحث الأوساط الطبية اليوم في هذا الأمر، لأن الإشكالية ما بين واقع نوعية الأداء وتصور نوعية الأداء تتسبب في كثير من التداعيات التي تمس حُسن معالجة المرضى، بكل تبعات ذلك على سلامتهم وهدر الموارد المالية والطاقات البشرية للعاملين في تلك المستشفيات.
وضمن عدد 22 يوليو (تموز) من مجلة «رابطة القلب الأميركية»، عرض الباحثون من الرابطة نتائج برنامج «اتبع الإرشادات لمعالجة السكتة الدماغية» الذي شاركت فيه 141 مستشفى بالولايات المتحدة، تمت فيها معالجة نحو 50 ألف حالة سكتة دماغية بين عامي 2009 و2010. وقام الباحثون بمراجعة مقدار المدة الزمنية بين لحظة وصول المريض إلى المستشفى ولحظة تلقيه لعلاج «تي بي إيه» (Tissue Plasminogen Activator) المذيب للجلطات الدموية في الأوعية الدموية.
ومعلوم أن حالة السكتة الدماغية (Ischemic Stroke) تنجم عن حصول تجلط للدم في أحد شرايين الدماغ، مما يُؤدي إلى سدد في مجرى تدفق الدم إلى مناطق من الدماغ، وهو ما يتسبب في تلف خلايا تلك المناطق الدماغية إذا ما استمر هذا السدد في مجرى تدفق الدم خلال الشرايين. وعقار «تي بي إيه» (TPA) مفيد جدا في خفض شدة تأثير الجلطات الدموية وتداعياتها على المدى القصير والطويل لدى مرضى السكتة الدماغية، لأنه عقار يُذيب تلك الجلطات الدموية ويسمح بعودة جريان الدم وتدفقه إلى مناطق الدماغ. وتنص الإرشادات الطبية على أنه يجب إعطاء العقار لمريض السكتة الدماغية خلال 60 دقيقة من لحظة وصوله إلى بوابة المستشفى.
وقام الباحثون بإجراء استبيانات للمسح الإحصائي بسؤال العاملين في تلك المستشفيات عن تقديرهم لأداء مستشفياتهم في سرعة إعطاء العقار لمرضى السكتة الدماغية وفق ما تنص عليه الإرشادات الطبية، وقارنوا بين إفادات تصور العاملين وواقع ما تضمنته السجلات الطبية الدقيقة لوقت وصول المريض إلى المستشفى ووقت تلقيه لعقار إذابة الجلطات الدموية. ولاحظ الباحثون في نتائجهم تفاوتا واضحا ما بين تصور العاملين لنوعية أداء مستشفياتهم وواقع حال أدائها في اتباع الإرشادات التي تنص على عدم تجاوز تلك الفترة الزمنية لمقدار 60 دقيقة بين وصول المريض للمستشفى وتلقيه للعقار. وتحديدا، تطابق تصور الأداء بشكل صحيح مع واقع الأداء لدى فقط 29 في المائة من العاملين في المستشفيات، بينما لدى 71 في المائة كان هناك تفاوت في ما بين ما يتوقعون أنهم يقومون به في مستشفياتهم وبين ما يقومون به فعليا في معالجة مرضى السكتة الدماغية ضمن المدة الزمنية المطلوبة.
كما قام الباحثون بتصنيف المستشفيات إلى ثلاثة مستويات، وهي مستوى عال ومتوسط ومتدن على أساس النسبة المئوية للحالات التي تلقى فيها مرضى السكتة الدماغية علاج إذابة الجلطات ضمن الوقت الزمني الذي توصي به الإرشادات الطبية. ولاحظ الباحثون أنه في 60 في المائة من مستشفيات المستوى المتدني، وفي 40 في المائة من مستشفيات المستوى المتوسط، كانت تصورات العاملين في تلك المستشفيات مبالغا فيها وتفوق بمراحل واقع حال ونوعية أدائها في سرعة تلقي المرضى لعقار إذابة الجلطات. كما لاحظوا أن المستشفيات التي ارتفعت فيها مبالغات عامليها لتقدير نوعية أدائهم كانت هي الأدنى في إعطاء العقار لمرضى السكتة الدماغية، بمعنى أن إفراط العاملين في توقع دقة الأداء كان مصحوبا بتدني مستوى أداء مستشفياتهم. ولاحظوا كذلك في نتائجهم أن المستشفيات الأعلى في استقبال مرضى السكتة الدماغية هي الأعلى أيضا في إفراط العاملين فيها لتوقعات وتصورات دقة الأداء بما يخالف واقع حالها.
ووفق ما ذكره الباحثون، كان الباعث على إجراء الدراسة هو العمل على تحسين مستوى العناية الطبية بمرضى السكتة الدماغية عبر اتباع أفضل للإرشادات الطبية من قبل العاملين بالمستشفيات. وأفادوا بأن معرفة العاملين لواقع حال ممارساتهم العلاجية والتي قد تكون مخالفة لما يتصورونه عن أنفسهم، أي حصولهم على معرفة استرجاعية (Feedback Knowledge)، يُمكن الاستفادة منها في وضع بروتوكولات لتحسين الأداء وجودة العناية بالمرضى من خلال جعل تصورات العاملين لما يتوقعون أنهم يقومون به هدفا يجدر وصولهم إليه، وهو ما يبدأ من إدراكهم لواقع حالهم أولا. هذا من جانب، ومن جانب آخر تظل إشكالية الفرق الشاسع بين التصور والواقع لأداء العاملين الصحيين عن أنفسهم تحتاج إلى معالجة.
وكانت رابطة العلوم النفسية الأميركية قد تحدثت عن هذا الموضوع بالعموم، وقال الدكتور ديفيد دانينغ، دكتور علم النفس الاجتماعي بجامعة كورنيل في نيويورك: «لا يبالغ الناس في تقدير أنفسهم فقط، بل وأكثر من ذلك، يبدو أنهم حقا يصدقون ذلك. وحاولت كثيرا معرفة من أين يأتي ذلك. وأحد علاجات هذه الحالة هو المعرفة الاسترجاعية، وأحد الأمكنة التي تفيد فيها هذه المعرفة هي الأوساط الطبية، حيث يتم تكليف أحد الأطباء بتحديد نقاط الضعف الخاصة بهم والعمل على تحسينها من خلال التعليم والأبحاث. ولكن تبقى الإشكالية أن الأطباء والناس بالعموم قد لا يرون نقاط الضعف هذه في أنفسهم، ولذا فإن هذه المعرفة الاسترجاعية هي في الحقيقة دافع للعمل على تحسين القصور في الأداء. ومن البديهي أنه إذا لم يدرك الأطباء أن التقنيات الطبية والمعرفة الطبية قد تغيرت بشكل كبير فإنه لا يُتوقع منهم أن يكون لديهم دافع لتحسين وضعهم».

* استشاري باطنية وقلب
مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض
[email protected]