د. حسن محمد صندقجي
طبيب سعودي واستشاري قلب للكبار بمركز الأمير سلطان للقلب في الرياض
TT

هل جميع نتائج الدراسات الطبية جديرة بالثقة؟

تراجع الأوساط الطبية نفسها، خصوصا مع التدفق المتواصل لنتائج الدراسات والبحوث الطبية وتنوع نتائجها في إثبات «أمور علمية جديدة» أو نفي «صحة اعتقادات طبية شائعة». والأمور العلمية الجديدة قد تكون في معرفة المزيد عن كيفية نشوء أمراض أو مدى انتشارها أو مسبباتها.. وغير ذلك كثير، وكذا الحال مع نفي صحة اعتقادات طبية شائعة في جوانب المعالجة وكيفية إجرائها وجدوى استخدامها ومدى استفادة المرضى منها، وأيضا في جوانب تتعلق بالتغذية والتأثيرات الصحية الإيجابية أو السلبية لتناول أو استخدام أنواع شتى من المنتجات الغذائية أو الأعشاب أو غيرها.
ما تنتجه مراكز البحث الطبي على هيئة نتائج لدراسات وبحوث طبية هو في حقيقة الأمر «عرض على خشبة المسرح»، والمتفرجون هم عموم الناس وعموم العاملين في الأوساط الطبية، ذلك أن جدوى إنتاج ماكينات البحث الطبي تتمثل في تطبيقات تلك النتائج في واقع الحياة الطبية اليومية بغية معالجة أكبر قدر ممكن من المرضى بأفضل الوسائل وأيسرها وأقلها تكلفة، وأيضًا تتمثل في وضع وسائل واضحة وممكنة التطبيق من قبل أكبر عدد ممكن من الناس لوقايتهم من الإصابة بشتى أنواع الأمراض، وبالتالي خفض حجم المحتاجين إلى خدمات العناية الطبية، ولذا فإن عموم الناس وعموم العاملين في الوسط الطبي يتابعون تلك النتائج، كلا فيما يخصه أو يحتاج إليه.
ويبقى السؤال: هل جميع نتائج الدراسات الطبية جديرة بالثقة والتصديق، وتستحق أن يُعتمد عليها في معالجة المرضى أو وقاية الأصحاء من الأمراض والتأكيد لهم بأنها ثابتة الفائدة وسيجنون الخير من ورائها؟
هذا الموضوع طرحته مجلة «ساينس» Science العلمية في عدد 28 أغسطس (آب) الماضي، وذلك عبر نشر نتائج دراسة الباحثين من مركز العلوم المفتوحة COS في شارلوتسفيل بولاية فرجينيا الأميركية، وهي هيئة علمية غير ربحية، حول مدى نجاح إعادة تحقيق النتائج نفسها التي توصلت إليها دراسات وبحوث طبية سابقة.
ومعلوم أن قابلية إعادة استنساخ نتائج البحوث Research Results Reproducibility هي إحدى سمات المعلومات الطبية الصحيحة، لأن نتائج الدراسات الطبية التي أثبتت جدوى وسيلة علاجية ما خلال دراسة طبية على مجموعة من المرضى بمواصفات معينة، يجب أن تكون قابلة لإنتاج الفوائد نفسها تلك على مجموعات أخرى من المرضى ممن لديهم تلك المواصفات في أماكن مختلفة من العالم، وإلا فإنه لا جدوى منها بوصفها وسيلة علاجية مثلاً قابلة للتعميم على جميع المرضى المصابين بالمرض نفسه.
وقام الباحثون في دراستهم بمراجعة نتائج مائة من الدراسات الجديدة التي تم نشرها عام 2008 في ثلاث من المجلات العلمية الرائدة في علم النفس، وهي مجلة «علوم النفس» Psychological Science ومجلة «الشخصية وعلم النفس الاجتماعي» Personality and Social Psychology Journal ومجلة «العلم التجريبي: التعلم والذاكرة والإدراك»Experimental Psychology: Learning، Memory and Cognition. واتفق الباحثون مع 270 باحثا من جميع أنحاء العالم على توزيع قيامهم بإعادة إجراء تلك الدراسات لمعرفة هل يمكن التوصل إلى النتائج نفسها التي ذكر الباحثون الأصليون توصلهم إليها في نتائج دراساتهم الأصلية.
وأفاد الباحثون من فرجينيا في نتائجهم أنه بعد تجميع الجهود الجديدة لأولئك الـ270 باحثا، تبين أن أكثر من نصف تجارب إعادة إجراء الدراسات المائة لم تثبت النتائج نفسها الأصلية! وتحديدا فإن 47 في المائة من تلك الدراسات فقط ثبت صحة قدرة إعادة استنساخ وتكرار نتائجها بنجاح.
وعلق البروفسور برين نوزك، أحد المشاركين في الدراسة ورئيس مركز العلوم المفتوحة، بالقول: «هذه المراجعة العلمية يجدر أن تغذي الشكوك حول ادعاءات بعض الدراسات التوصل إلى نتائج علمية غير صحيحة، خصوصا إذا اعتمدت على إحصاءات مهزوزة» على حد قوله. وذكر الباحثون أن 97 في المائة من نتائج الدراسات الأصلية التي ادعى الباحثون أنها «قوية في دلالتها الإحصائية»Statistically Significant كانت كذلك بالفعل في 36 في المائة منها فقط عند إعادة إجرائها!
وقال البروفسور نوزك: «استنساخ النتائج سمة أساسية في العلم الصحيح، والادعاءات العلمية لا تصبح صحيحة وموثوقة بمجرد حالة الباحث والدرجة العلمية له، بل إن المصداقية تعتمد في جزء مهم منها على قدرة تكرار الأدلة المؤيدة لها».
وعلق البروفسور ستيفن ليندساي، طبيب النفس في جامعة فيكتوريا، في بريتش كولومبيا بكندا ومراجع الدراسات المنشورة في مجلة العلوم النفسية، بالقول: «حينما يقرأ الناس نتائج دراسات جديدة عليهم النظر إليها بعين متفحصة، وعليهم أن يدركوا أن النتائج الجديدة إضافة صغيرة الحجم إلى طيف واسع من المعارف والعلوم التي تنمو وتتطور تدريجيا وبثبات، ولذا عليهم، حقيقة، أن يفهموا أنه من المهم أن يكونوا حذرين من تصديق نتائج دراسة واحدة بخلاف نتائج الدراسات التي يتم إجراؤها بطريقة واسعة ووفق منهجية دقيقة».
كما علق الدكتور ألان كروت، المدير التنفيذي لرابطة العلوم النفسية، بالقول: «وفق نتائج هذه الدراسة، يتعين على المجلات العلمية الأكاديمية أن تكون أكثر صرامة في مراجعة الدراسات التي تنوي نشرها، ونحن في مجلتنا (مجلة العلوم النفسية) غيرنا من طريقتنا نحو مزيد من الشفافية والاعتماد على تحاليل إحصائية أقوى والمشاركة في معرفة المزيد عن البيانات التي في تلك الدراسات قبل نشرها».
وقالت مارسيا ماكنيت، رئيسة تحرير مجلة «ساينس»: «دراسة مثل هذه ستساعد على توجيه فهم أفضل لأهمية جودة وتوثيق عمليات إنتاج الدراسات العلمية. وكانت 500 مجلة علمية قد قبلت مجموعة المعايير التي وضعتها مجلة (ساينس) في بدايات هذا العام حول ضرورة رفع مستوى الشفافية لعمليات نشر الدراسات العلمية».

* استشاري باطنية وقلب
مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض
[email protected]