محمد الرميحي
أستاذ الاجتماع السياسي في جامعة الكويت. مؤلف عدد من الكتب حول مجتمعات الخليج والثقافة العربية. رئيس تحرير مجلة «العربي» سابقاً، ومستشار كتب «سلسلة عالم المعرفة». شغل منصب الأمين العام لـ«المجلس الوطني للثقافة» في الكويت، وعضو عدد من اللجان الاستشارية في دولة الكويت. مساهم بنشر مقالات ودراسات في عدد من الصحف والمجلات المختصة والمحكمة.
TT

الخيار الروسي!

غير خاف أن هناك نشاطا دبلوماسيا عربيا ودوليا باتجاه موسكو، والبعض يرى أنها قادرة بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين على تقديم جهد للانفراج في عدد من القضايا التي تستنزف منطقة الشرق الأوسط العربية، كونها على الأقل (لها دالة) على النظام السوري! ولها علاقة معقولة مع النظام الإيراني! هل هذا الافتراض صحي أم هو فقط محاولة دبلوماسية للبحث عن مخارج، لأن الأبواب الأخرى يبدو أنها مؤصدة أمام أي تطور إيجابي يحقن دماء كثيرة يمكن أن تراق على مسرح التشبث بالسلطة، كما أريقت دماء سابقة في السنوات القليلة الماضية، ذلك سؤال يستحق البحث عن إجابة اجتهادية له؟
قصة عجيبة عن السيد فلاديمير بوتين، أريد أن أشرك القارئ فيها، روتها السيدة هيلاري كلينتون في مذكراتها الأخيرة «الخيارات الصعبة» وربما شكلت ذكريات طفولته رؤيته للعالم المحيط بعد ذلك: قالت إنها بصفة وزيرة خارجية الولايات المتحدة كانت في اجتماع لمنظمة التعاون الاقتصادي لدول آسيا والباسفيك في سبتمبر (أيلول) 2012 في فلاديفوستك، اعتذر السيد أوباما عن الحضور للقمة، فكانت هي رئيسة الوفد، لم يسمح لها برتوكوليا، كما تقول، وبسبب موقف متعارض مع بوتين حول سوريا، بلقاء السيد بوتين إلا قبل خمس عشرة دقيقة من موعد العشاء، ولكن لأنها كانت نائبة لرئيس دورة المنظمة الأسبق (أوباما) كان لا بد أن تجلس على يمين الداعي (بوتين) في وقت تناول العشاء، وقتها تبادلت الحديث العام معه، وعرج الكلام حول مقاومة مدينة «لينينغراد» نحو ثلاث سنوات للحصار الألماني في الحرب العالمية الثانية، أعيد اسم المدينة القديم لاحقا، وهي مسقط رأس بوتين (بطرسبورغ)، فقص لها قصة المدينة وبطولة أهلها، قال: كان الحصار محكما على المدينة، أحد الجنود أخذ إجازة قصيرة من الجبهة ليقضيها مع أسرته، وهو في الطريق إلى المنزل وجد مجموعة يلتقطون الجثث من الشارع الذي يسكن فيه، ويرمونها فوق بعضها في السيارات المتوقفة على جانب الطريق، بعد غارة ألمانية هوجاء، وعند اقتراب الجندي، وجد إحدى السيارات تتدلى منها رجل سيدة تلبس حذاء أحمر، عرف من الحذاء أنها زوجته، فتضرع لمن يجمع الجثث أن يأخذ تلك الجثة أو ما بقي منها، لأنها زوجته، وبعد نقاش، سُلم الرجل الجثة التي تبين أن بها بقية من روح، وطببها لفترة فتعافت، وبعد سبع سنوات من ذلك الحادث رزقت تلك المرأة بطفل اسمه فلاديمير بوتين! (القصة في صفحة 243 الطبعة الإنجليزية) هي قصة لافتة ولا شك، قد تبيّن ما تكنه بعض أعماق شخصية فلاديمير بوتين وتأثير الحرب والفاقة من جهة، وشعوره بالفخر بوطنيته الروسية وتصميمه (الوطني) على بث روح القيصيرية في روسيا الحديثة. نبقى مع مذكرات هيلاري كلينتون التي تقول إنها بذلت جهدا كبيرا لمعرفة شخصية بوتين دون نجاح كبير!
ما يشاع أن الولايات المتحدة قد (فوضت) السيد بوتين لإيجاد حل في الشرق الأوسط، هل هذا التفويض صحيح على أرض الواقع أم هو فرط خيال المحللين، قراءة موضوعية مرة أخرى في مذكرات وزيرة الخارجية تقول، إنها اتفقت مع السيد أوباما على سياسة تجاه روسيا ثلاثية المداخل، نتعاون في المصالح المشتركة، ونقف بقوة ضد اختراق مصالحنا، وثالثا، نتعامل مع الشعب الروسي (تلك الفكرة الأخيرة جاءت من بعض نجاحات تكتيكات الحرب الباردة) سُميت الخطة الثلاثية بسياسة (جبر الكسر)، هل يعني أن (جبر الكسر) ما زالت قائمة، ومن يقوم بتنفيذها هو وزير الخارجية الأميركي الحالي السيد جون كيري! إحدى القراءات الثابتة لسياسة بوتين هي اهتمامه الأول بـ«الحرب ضد الإرهاب» حتى عندما قررت الولايات المتحدة حربا على أفغانستان في عام 2001، كانت تحتاج إلى قواعد وسط آسيا للوصول إلى مسرح العمليات، وقتها صرفت روسيا النظر عن استخدام الولايات المتحدة قواعد في كل من أوزباكستان وقرغيزستان، فقد وافقت روسيا بالسماح للبلدين وقتها بشرط عدم إبقاء الأميركان وقتا طويلا!! اهتمام بوتين بحرب الإرهاب، جاء من منطلقين، الأول، هو إبعاد الجمهوريات الإسلامية في جنوب روسيا وما بعد الجنوب عن العدوى المتفشية، خصوصا أنه خاض حربا ليست سهلة في الشيشان، وثانيا، ميله (الطبيعي) لنصرة الديكتاتورية التي يرى أنها أفضل لتسير الدول!! تلك الحقيقة (القلق من الإرهاب) نجد لها صدى في وصف كوندوليزا رايس وزيرة خارجية (بوش الابن) في كتابها «أسمى مراتب الشرف» أن أول لقاء بين بوتين وبوش الابن في يونيو (حزيران) 2001 كان إصرار السيد بوتين على «الحرب ضد الإرهاب» علينا أن نتذكر أن اللقاء كان قبل أشهر من «غزوة مانهاتن» في 11 سبتمبر من ذلك العام!
اهتمام روسيا بالشرق الأوسط ليس جديدا، فالبعض ينسى أنها كانت شريكة في معاهدة سيئ ذكرها عند العرب، عقدت إبان الحرب العالمية الأولى، وهي اتفاقية سايكس بيكو، فقد كان لروسيا القيصرية قطعة من كعكة ما سمي «الرجل المريض» (الدولة العثمانية)، إلا أن الثورة البلشفية وانغماس روسيا في الشأن الداخلي بعد الثورة، جعلها أولا تفضح تلك المعاهدة الشائنة، وثانيا، تنسحب منها كشفا للتآمر الغربي. فلاديمير بوتين مهتم بما يعرف اليوم بالجغرافيا السياسية، وتعتبر الأوضاع المتدهورة في الشرق الأوسط فرصة مواتية للعودة من جديد للحصول على ذلك الجزء من الكعكة الذي تخلى عنه البلشوفيك (فلاديمير لينين ومن أتى من بعده) قبل مائة عام تقريبا.
وما دام الأمر يوفر له أوراق مقايضة مع الغرب، وخصوصا الولايات المتحدة، التي تناقص اهتمامها تحت إدارة السيد أوباما بالمنطقة، فإن روسيا التي أصبحت عاصمتها «محجة» للأطراف المتنازعة، تستطيع أن تفرض شروطا تحقق لها مصالح، فقط لمن يدفع أكبر ثمن سياسي، فموسكو ليست في وارد أن تكون جمعية خيرية! على الدبلوماسية العربية أن تبحث بجد عن ذلك الثمن، فحتى الساعة يبدو أن موسكو تغير في شروط اللعبة كلما دفع لها ثمن ما، ولا يبدو منها إلا مطالب مكررة: هي هل من مزيد! فهل أزف الوقت للقول لموسكو كما يقول المصريون «هات من الآخر» فالناس تموت بالآلاف جراء مساندتكم للنظام السوري، وقد يفوق عدد الضحايا في سوريا الرقم الذي سقط من الجيش الأحمر (332 ألفا)!! في بطرسبورغ!!!
آخر الكلام:
في العام القادم سوف يتذكر بعضنا أنها سنة ذكرى مرور مائة عام على اتفاق سايكس بيكو المشؤوم!