هشام عبد العزيز
كاتب مصري
TT

ما لم يقله «الزعماء» في الأمم المتحدة

ساقني حظي يوم الاثنين 28 سبتمبر (أيلول) 2015 للجلوس أمام شاشة التلفاز طوال اليوم، فتابعت وأنا بكامل قواي العقلية كلمات الوفود المشاركة في الاجتماع السبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة.
ومكمن الأسى لدي أنني لم أشعر حقيقةً بصدق «الزعماء»، بما يتساوى وأهمية الحدث أو حتى الوقت الذي أضعته في متابعته. لكن مظنة الكذب لم تكن مشكلتي أنا، بل مشكلتهم قبلي.
هذه المشكلة رغم أهميتها، ليست الأهم.. لقد بدا «زعماء العالم» إلا قليلا منهم، غير قادرين على استيعاب اللحظة الدولية وخطورتها؛ بعضهم حيى كل دول قارته دولة دولة، فشجعوه دولة دولة. وبغض النظر عن انعدام الجدية وعدم الشعور بالأزمة الذي كان واضحا في كثرة التصفيق، فإن الشعور العام لدى «الزعماء» كان احتفاليًا، وفي الاحتفالات لا مجال للمحاسبة، ربما بعض العتاب والملام اللذين لا يفسدان الود القائم بل والراسخ.
الحقيقة المخيفة التي لم يبد أن كثيرًا من «زعماء» العالم يدركونها، مكونة من شقين مترابطين؛ الأول أن العالم أصبح صغيرًا جدًا بشكل مخيف لا يمكن تحمله أو التعاطي معه بالآليات التقليدية المتعارف عليها لدى هذه الزعامات. والشق الثاني والأهم أن الأطر السياسية المعروفة والمستقرة مثل (الدولة) يبدو أنها تتعرض الآن لمراجعة كبرى، وأكاد أقول مراجعة جذرية، بعد نحو ثلاثة عقود تقريبًا من تجذرها في البيئات السياسية. (أرجو أن لا يتصور أحد أنني أشير من طرف خفي لمفهوم «الأمة» طبقا للتراث الإسلامي، أو مفهوم الأممية الاشتراكية، أو الكومنترن Communist International طبقا للمفهوم الشيوعي). اللافت في هذه المراجعات الجذرية أنها ليست من قبل مؤسسات وأجهزة ومراكز أبحاث ومفكرين فحسب، بل ومن بشر عاديين ومن ثقافات مختلفة، لا فرق في هذا بين عالم أول وعالم ثالث، ولا بين دولة نشأت منذ قرنين أو ثلاثة وأخرى تعز سنين عمرها عن العد.
إن الشواهد على ما أقول كثيرة لا تبدأ بمحاولة رسم خريطة جديدة بأبعاد مذهبية في غرب آسيا ولا تنتهي بالهجرات الجماعية عبر العالم، سواء منها ما هو طوعي (من أوروبا وغيرها إلى داعش) أو قهري (إلى أوروبا).
ما لم يقله المجتمعون أن «الدولة» ربما لن يكون لها مكان فعلي بعد فترة، وبعد أن فقدت وجودها الرمزي عبر آليات كثيرة تعمل عليها منذ نحو قرن، ومن هذه الآليات كانت المنظمات الدولية مثل منظمة الأمم المتحدة نفسها التي حاول «الكبار» في العالم عبرها تفريغ المحتوى الرمزي لـ«الدولة» من معناه. فشلت المنظمات الدولية في المهمة كما فشلت في كل ما أنشئت من أجله. ويبدو أن الحالة الاحتفالية للزعماء كان سببها أن هذه المنظمة الأرفع لم تستطع حتى تاريخه إجبار أي طاغية على التراجع، ولم تردع أي دولة عن التجاوز السياسي أو الأخلاقي في حق دولة أخرى.
لا تظنن «كبار العالم» ينتظرون حتى يعلنوا موت الأمم المتحدة ثم يبدأوا في البحث عن آلية أخرى للسيطرة، فقد انتهوا تقريبًا من تدشين هذه الآلية، وهو السبب الحقيقي وراء الهجوم المدهش من بعض «الكبار دائمي العضوية» على منظمة دولية هم من يديرونها.. العالم الآن تحكمه مجموعة قليلة ومعروفة بالاسم من الشركات متعدية الجنسية postnational Corporation (وليس متعددة الجنسية Multinational Corporation، أو Multinational Enterprise)، هذه الشركات هي التي ترسم السياسات وتأتي بـ«الزعماء والقادة» وتدفع الرواتب والمنح الدولية..
ما لم يقله الزعماء في الأمم المتحدة أنهم.. ليسوا زعماء.. وهم يعرفون..