سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

«كل شعراء العراق»

يتحدث الشاعر هاشم شفيق عن السنوات الأولى في بغداد: «منذ أورقت مخيّلتي وأبصرت هذا الكون رأيت العراق فقيرًا. في نهاية الخمسينات عندما كنت طفلاً، كنت أرى الخرائب تحيط بالعراق. بيوت الصفيح، الأكواخ، بيوت اللبِن، بيوت السقائف والصرائف والناس يسعون في الوحل والتراب، والأزقة الرطبة، والشوارع الموحلة، والمياه الآسنة التي تجري بين زقاق وزقاق.
كل شعراء العراق كانوا من الطبقة الفقيرة. الطبقة المسحوقة التي بالكاد تتنفّس وتعيش. السياب الذي قضى حياته، وهو الشاعر المغيّر والمجدّد، يبحث عمن يبادله ديوان شعر بقليل من النقود لشراء الدواء، أو البحث عن مجلة تسدد له مكافأة من أجل شراء ربطة من الخبز وعلبة دواء (...)، محمود البريكان الذي قتل من أجل حفنة دراهم على يد صبي من أقاربه، الحصيري، الشاعر الكلاسيكي، يموت على الرصيف وهو نائم، حسين مردان ذاق الفقر وشربه دفعة واحدة، سركون بولص أفنى حياته معوزًا ومات فقيرًا لا يملك شيئًا سوى قصائده وترجماته، عقيل علي يموت في الشارع بين الكلاب الضالة، والقائمة تطول وتتسع».
قبل أن يغلبنا الحزن على العراق وشعراء العراق، يجب أن نستدرك من كتب هذه الصورة الحزينة لكي يقول كم يشعر بالحنين إلى بغداد. كم أحبها. كم شغفته في الشباب والمراهقة، لكنه طلب المنفى، مثل سواه، بسبب قسوة الحكام وفظاظة النظام. لم يكن الفقر شيئًا مهمًا، لكن مع القهر والظلم والقتل والموت والطغيان، خرج الشعراء من بغداد لينام بعضهم على الأرصفة تحت سماء الحرية.
(«بغداد السبعينات»، دار المدى) نص نثري يشبه نصوص السياب الشعرية في معاتبة العراق. يعود هاشم شفيق إلى ذاكرته وعاصمته وأحياء البائسين، ليدوِّن ملحمة إضافية في ملاحم الألم والأدب، التي أتقن سردها بعض أدباء الفقر العربي.
لكن البؤس الأكبر لم يكن الفقر، بل الاختناق اليومي. قبضة الجهلة وفظاظة عالم يسعى الجميع للهروب منه إلى أي مكان. الأكثر بؤسًا، يقول هاشم شفيق، هو التعِس الذي لم يُسمح له بالسفر.
في رحلته الأولى إلى بيروت لم يرَ فقط الحرية، بل رأى أيضًا البحر. وكان يمضي الساعات يتأمل صحراء المياه المالحة التي لا وجود لها في العراق. وتعرَّف إلى الشعراء الذين يكتبون ما يريدون. محزنة قراءة هاشم شفيق. الأوجاع بين السطور وفوقها. وكذلك الأنفة ورفض المذلات. يا عراق.. كان السياب يتأوَّه.