محمد واني
كاتب من كردستان العراق
TT

ديمقراطية «فالصو»

طالما تفاخر قادة إقليم كردستان بتجربتهم الديمقراطية الفتية، وتباهوا بها أمام العالم، واعتبروها من أنجح وأنضج الديمقراطيات المعاصرة في المنطقة، كان لهم الفضل والمنة في تكريسها وتطويرها وكأنهم «جايبين الذيب من ذيله». وكثيرا ما كانوا يحثون القادة العراقيين على الأخذ بها، وتطبيق بعض مبادئها (السامية) في مؤسسات الدولة الجديدة. وكلما تطرقوا معهم إلى مسألة، لم يفتهم أن يشيروا إلى مسألة الديمقراطية الكردية، ومزاياها، وفوائدها التي لا تعد ولا تحصى للعراقيين.
والعجيب أن كثيرا من المثقفين الكرد، حتى غير المحسوبين على الحزبين الرئيسيين، تأثروا بكلام القادة السياسيين حول المسيرة الديمقراطية الكردية (الظافرة)، وظلوا يرددونه بشكل مبالغ فيه بمناسبة أو غير مناسبة، ووصل الحال ببعضهم إلى إجراء مقارنة بين الديمقراطيتين الكردية والغربية، وبحثوا أوجه التشابه والاختلاف بينهما، وخلصوا في النهاية إلى نتيجة واحدة وهي؛ أن التجربة الرائدة في كردستان امتداد للتجربة الغربية، وهي بمثابة واحة خضراء وسط صحراء قاحلة!
والزائر، سواء كان دبلوماسيا أو سائحا أجنبيا، ما أن تطأ قدمه على أرض البلاد حتى يضطر إلى الاستماع لشرح مطول وممل عن هذه الديمقراطية التي لا تشبه أيا من الديمقراطيات الموجودة في البلدان المجاورة، ولا حتى في بلاد (الوقواق). ترسخت جذور هذه الديمقراطية في المجتمع، وأصبحت تقليدا سياسيا متوارثا يمارسه النظام السياسي الحاكم، الذي يقوده الحزبان الكرديان المهيمنان (الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني)، على أدق مفاصل الإقليم بصورة كاملة لمدة تزيد على عشرين عاما، وظلا يروجان لها على أنها الديمقراطية المثالية الأصلح لإدارة المجتمع الكردي، والمجتمع العراقي على حد سواء.
فمن حقك - وفق هذه الديمقراطية (الفلتة) - كمواطن أن تنتقد السلطة بقدر ما تستطيع، وكيفما تشاء، وبالشكل الذي تريده، لك كامل الحرية، والسلطة بدورها حرة أيضا في أن تتجاهلك «بكل برود» ولا تعير لك ولرأيك ولقضيتك أي وزن! لك أن تنزل إلى الشارع في وسط أي مدينة من مدن كردستان، وتبدأ بالصراخ، إلى أن تتقطع أنفاسك، منتقدا الحكومة ومؤسساتها وسياساتها وأهدافها من دون أن يعترض طريقك أو يمسك أحد بسوء، ما دمت تتحرك ضمن الدائرة الضيقة لهذه الديمقراطية التي وضعت لك، ولا تتجاوز الخطوط الحمراء، وهي عادة تتعلق بحظر ذكر أسماء القادة وأفراد عائلاتهم مهما كانوا فاسدين وغير أكفاء، ومن غير المسموح أيضا أن تنتقد حزبا وتترك حزبا آخر، يجب أن توزع انتقاداتك بينها بالعدل مناصفة (فيفتي فيفتي) وإلا ستتعرض لعقوبات قاسية!
لقد مر أكثر من عشرين سنة على تكريس هذه الديمقراطية (الحزبية) - إن جاز لنا إطلاق هذه العبارة، على غرار «الديمقراطية البعثية أو الديمقراطية المسيحية أو الاشتراكية أو الإسلامية، وغيرها من الديمقراطيات المطروحة على الساحة العالمية» - ولم تقدم أي شيء له قيمة للمجتمع، ولم تحدث فيه أي تغيير سياسي، سوى حفظ مصالح الحزبين وبقائهما في السلطة لأطول فترة ممكنة، وستبقى هذه الديمقراطية «العجيبة» قائمة وفي «الحفظ والصون» ما دامت ترعى وتحافظ على مصالح الحزبين في الإقليم ولا تتعارض مع أهدافهما السياسية، ولكن إن انحرفت عن مسارها وسلكت طريقا آخر غير الذي وضع لها، وشكلت خطرا على وجودهما في السلطة، فإنهما سرعان ما ينتهكانها، ويقفان بالضد منها إلى أن تعود لتناسب قياساتهما الحزبية!.. منتهى الديمقراطية!