أمير طاهري
صحافي إيراني ومؤلف لـ13 كتاباً. عمل رئيساً لتحرير صحيفة «كيهان» اليومية في إيران بين أعوام 1972-1979. كتب للعديد من الصحف والمجلات الرائدة في أوروبا والولايات المتحدة، ويكتب مقالاً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» منذ عام 1987.
TT

غارة ناجحة لبوتين في طهران

بكل المقاييس، صُممت زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى طهران، الاثنين الماضي، كي تبدو وكأنها قطعة من الباليه السياسي الدبلوماسي، لتخدم ثلاثة أهداف محددة؛ الهدف الأول هو إظهار أن روسيا تعترف بـ«المرشد الأعلى» علي خامنئي باعتباره صانع القرار الأول في الجمهورية الإسلامية.
غالبا ما يلقي القادة الغربيون باللائمة على «مسؤولي إيران غير المنتخبين»، ويقصدون «المرشد الأعلى» بسبب مغامرات الجمهورية الإسلامية على المسرح السياسي الدولي. فهم يخدعون أنفسهم باعتقادهم أنهم سوف يحصلون على صفقات أفضل من «المسؤولين المنتخبين»، وهنا يقصدون رئيس الجمهورية الإسلامية. وبناء على هذا التحليل، حاول القادة الغربيون، وبالتحديد الرؤساء الأميركيون، إبرام صفقات مع عدد من الرجال الذي خدموا كرؤساء في النظام الخميني؛ بدءًا من قليل الحظ أبو الحسن بني صدر، إلى المبهم محمود أحمدي نجاد، ومرورًا بالماكر هاشمي رفسنجاني. ويعلق هؤلاء القادة آمالهم على الرئيس حسن روحاني، خليفة رفسنجاني.
التحليل الغربي مخطئ لسببين؛ الأول هو أن كلمتي «منتخب» و«غير منتخب» في الجمهورية الإسلامية لا تحملان المعنى نفسه الذي تحملانه في الديمقراطيات الغربية، وذلك لأنه لا يخوض الانتخابات سوى المرشحين الذين حصلوا على موافقة من النظام، وحتى مرشحو النظام الذين تم اختيارهم مسبقًا ليس باستطاعتهم الفوز إلا بعد اعتماد فوزهم من قبل مجلس يضم اثني عشر عضوًا من الملالي. وعليه، فإن القول بأن روحاني هو الرئيس «المنتخب» لإيران أمر يثير الضحك في حد ذاته (لم يسمح لنصير روحاني، رفسنجاني، نفسه حتى بالتقدم للترشح في المرة السابقة).
وفي الوقت نفسه، بمقدور خامنئي الادعاء بأنه «منتخب»، شأنه شأن روحاني أو غيره في النظام الخميني، وهذا لأن «القائد الأعلى» منتخب من قبل «مجلس خبراء القيادة»، المنتخب بدوره من قبل الشعب بالطريقة المخادعة نفسها التي انتخب بها الرئيس. وبناء عليه، فإن كل كبار القادة في الجمهورية الإسلامية منتخبون، لكن الانتخابات ليست حقيقية.
يدرك بوتين هذا الأمر جيدًا كمدافع عن النظام السوفياتي، فليونيد بريجينيف أيضًا انتخب بالطريقة نفسها شأن جوزيف ستالين وخامنئي اليوم. ومع زوال الاتحاد السوفياتي أعلن بوتين نفسه زعيم روسيا القومي، وبتلك الصفة أيضًا يدرك بوتين طبيعة النظام الاستبدادي، حيث السلطة دائمًا شأن شخصي، وليس مؤسساتيًا. ففي النظام الروسي، يتمتع الحاكم، أو القيصر، ببعض السلطات الدينية شأن «المرشد الأعلى» في النظام الخميني. ومن ضمن ألقاب القيصر لقب «غوزدار»، الذي يعني سيد العالم، وهي المرتبة التي تقرب الحاكم من درجة الألوهية. فقد أقام إيفان، مؤسس روسيا الحديثة كدولة والملقب في الأدب الغربي بـ«المزعج»، محكمته في معبد أرثوذوكسي لعدة سنوات، وحصل على «السلطة الإلهية»، عندما أمر بقطع رؤوس تسعة من قادة التتار المسلمين عام 1550.
وغالبا ما يصف المعلقون الغربيون النظام الروسي بـ«الشمولي»، غير أن مصطلح المستبد أدق تعبيرًا. ففي هذا النظام، القيصر الذي لا يحسن الحكم لا يوجه له الانتقاد لعدم كفاءته أو عدم عدالته، لكن يوصم بصفة «المحتال»، والمعنى الضمني هو أن «القيصر الحقيقي» دائمًا يحسن الحكم، وبناء عليه فهو أكبر من أن يُنتقد ممن هم دونه من البشر. «القيصر» الحقيقي لا يخسر حربًا، ولا يكون مخمورًا طوال الوقت، ولا يصاب بالجنون. إن فعل أيًا من تلك الأشياء فهو محتال، وليس قيصرًا سيئًا. فالتاريخ الروسي مليء بالمغامرين الذين زعموا أنهم «قياصرة» حقيقيون عندما ساءت الأمور في ظل قيادتهم. وشأن إيران الشيعية، أوجدت إيران تقليد عبادة «الشهيد»، حيث تقوم الطوائف السرية، مثل طوائف «ريدنيل» و«خليست»، بتوقيع عقوبات جماعية على نفسها لما اقترفه أجدادها الذين فشلوا في الدفاع عن «القيصر الحقيقي».
وعلى عكس الزعماء في الديمقراطيات الغربية، لا يجد بوتين صعوبة في فهم النظام الخميني، ولهذا خرج عن عادته بأن أبدى احتراما لخامنئي.
وافق بوتين على ركوب السيارة «المرسيدس» المقاومة للرصاص التي أرسلها له خامنئي كي يستقلها من المطار (رغم أن بوتين كان قد أحضر سيارته الخاصة المقاومة للرصاص ماركة «زيل» لكنه لم يستخدمها). ركب بوتين السيارة مباشرة إلى قصر خامنئي، متجاهلاً حفل الاستقبال الذي أعده روحاني. وقضى الزعيم الروسي نحو ثماني ساعات في طهران، منها نحو ساعة ونصف الساعة مع «المرشد الأعلى».
ومرة أخرى، وعلى عكس البروتوكول، أحضر بوتين هدية لخامنئي عبارة عن نسخة من القرآن الكريم عمرها 300 عام (يتم تبادل الهدايا بين الرؤساء في الزيارات الرسمية فقط في حين لم تكن تلك الزيارة رسمية). وأثنى الرئيس الروسي على خامنئي، وأوضح له أن موسكو أولته عناية خاصة بأن قررت مناقشة كل الموضوعات الدولية المهمة ذات الاهتمام المشترك معه.
وافق بوتين على السماح لإيران بفتح فرع لـ«الجامعة الإسلامية الحرة» الإيرانية، وبافتتاح فرع معهد ديني للتعليم العالي، في روسيا في بلدة ديرباند، إقليم داغستان، حيث الأغلبية الشيعية. والأهم أن بوتين، على الأقل، ادعى أنه في ما يخص سوريا، فإن المرشد الأعلى هو من يقود الرقصة، فإن أراد بقاء بشار الأسد فليبق الطاغية السوري، وإن أراد له الرحيل فليرحل.
وحسب صحيفة «ديلي كيهان» الإيرانية التي تعكس أفكار خامنئي، عبر المرشد الأعلى عن رضاه عن سياسات بوتين «خاصة خلال العام ونصف العام الأخير».
هدف بوتين الثاني كان أن يلقي بمفتاح ربط في ما يعتقد أنه خطة لعب أميركية للسنوات الخمس المقبلة. فخلال ساعات معدودة، حطم بوتين آمال الرئيس أوباما في أن يعمل الجانب الموالي للولايات المتحدة، بقيادة رفسنجاني، على تحييد أو تهميش دور خامنئي ومن ثم قيادة إيران إلى اتجاه مختلف.
في النهاية، أراد بوتين إرسال رسالة إلى أطراف في المنطقة وفي مناطق أخرى، مفادها أنه في حين أن التحالف مع الولايات المتحدة، الصديق المتقلب، يؤدي دومًا إلى الحزن وخيبة الأمل، فإن تنمية الصداقة مع روسيا تعتبر استراتيجية أكثر حكمة.
وعلى السطح، فقد حقق بوتين أهدافه الثلاثة في طهران كاملة، لكن الوقت وحده كفيل بأن يظهر إن كانت تلك الأهداف تستحق عناء السعي لها، أم لا.