إميل أمين
كاتب مصري
TT

مؤتمر باريس.. البشرية على المحك

نحو ثماني وأربعين ساعة تفصلنا عن انطلاق أحد أهم المؤتمرات في تاريخ البشرية، مؤتمر باريس لمناقشة التغيرات المناخية الحادة التي يتعرض لها كوكب الأرض، ومعها تبقى البشرية قولاً وفعلاً على المحك لجهة الانتصار أو الانكسار في تلك المعركة الإيكولوجية، والمتعلقة بمستقبل أبنائنا اليوم وغدًا وإلى ما شاء الله.
يأتي مؤتمر باريس في ظل تحديات غير مسبوقة من حيث المكان والزمان؛ فباريس لا تزال جريحة، وآثار الإرهاب الأسود بادية على جسدها، وذهاب زعماء ورؤساء العالم إليها هو رسالة تضامن مع الشعب الفرنسي، مفادها أن العنف لا ولن يهزمنا، وأن الأعمال الجنونية للبعض يجب ألا تدعونا للاستسلام للخوف.
أما من حيث الزمان فاللحظة الآنية حول العالم، تكاد تشبه مواقف حرجة وحساسة عرفها العالم في ستينات القرن الماضي، عندما كادت المواجهة العالمية تتحول إلى فعل مدمر للعالم برمته لولا نفر قليل من العقلاء استطاعوا درء الخطر الأعظم من وراء الكواليس. والسؤال الآن: هل يقنع هؤلاء نظراءهم في أن يكون لقاء باريس إنقاذًا مزدوجًا للأرض من التغيرات المناخية تارة، ومن المواجهات العسكرية المسلحة مرة أخرى؟
منذ خلق الإنسان وهناك علاقة جذرية بين البشر والأرض، غير أن ملامح تلك العلاقة يبدو أنها اختلت في العقود الأخيرة بسبب جشع وطمع فريق من البشر على حساب خبرات الطبيعة؛ فالتكنولوجيا الحديثة جعلت الإنسان متسلطًا على البيئة برًا وبحرًا وجوًا، مستغلاً لها، مدمرًا إياها، كما تستغل الشعوب الأضعف عبر التاريخ.
لقد باتت حالة «الاختلال الإيكولوجي» بين الإنسان والبيئة هي سيدة الموقف، بسبب التطلع إلى الربح غير المحدود، حتى وإن كان على حساب تدمير الكوكب الأزرق، وفي المقدمة تأتي القوى العالمية الكبرى كالولايات المتحدة الأميركية والصين، الأمر الذي أوجد ولا يزال حالات من انعدام المساواة بين الدول الغنية والفقيرة، وشعوب العالم الأول وما يليها من أمم مطحونة تدفع فاتورة باهظة، جراء الاحتباس الحراري الناجم عن أدخنة الدول الصناعية الكبرى.
هل التغيرات المناخية المتطرفة عامل خطير يصل البيئة بالسياسة، ويربط بين تقلبات المناخ بثورات البشر والشعوب لا سيما في الشرق الأوسط بنوع خاص؟ يبدو بالفعل أننا أمام معطى جديد لم يكن حاضرًا من قبل على خريطة التحولات السياسية في تاريخ الشعوب، وهذا ما أشار إليه ولي عهد بريطانيا الأمير تشارلز منذ بضعة أيام حينما قال إن «تغيرات المناخ تسبب ثورات وتثير أزمات، والدليل على ذلك الأزمة السورية...» كيف لنا أن نفهم هذا الحديث؟
يبدو أن شح المياه في سوريا كان أحد العوامل الرئيسية في الثورة التي انطلقت هناك، فنقص المياه أدى إلى هجرة المزارعين الفقراء الجماعية إلى المدن، الأمر الذي ولّد ضغوطات ديموغرافية واقتصادية عليها، وعدم مقدرة النظام على تدبير حلول عقلانية تجمع بين الاقتصاد والاجتماع، ومن هنا كانت الاحتجاجات الجماعية التي نشأت في درعا أولاً، ولهذا ربما كانت إقامة محطات مصانع لتحلية المياه هي الحل.
التهديدات المناخية ليست ذات أبعاد سياسية أو عسكرية فقط، بل مخاوفها الاقتصادية كارثية ولا شك؛ إذ تشير بعض الدراسات الاقتصادية التي وضعت في وقت مبكر إلى أبعاد الأزمة؛ ففي عام 2006 صدر تقرير «شتيرن» في بريطانيا، وقد أشار وقتها إلى أن التكلفة الاقتصادية لعدم اتخاذ إجراءات للحد من ظاهرة الاحتباس الحراري قد تصل في المستقبل إلى ما بين 5 إلى 20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي كل عام.. ترى ما النسبة اليوم بعد عقد من الزمن؟
يستلفت النظر الشعور بالمخاطر الجسيمة المحدقة بالأرض، وقد كانت سببًا مباشرًا في «هبة» رجال الأديان لملاقاة المستقبل المخيف، ففي أغسطس (آب) الماضي ولمدة يومين في إسطنبول توصل علماء مسلمون مثلوا العالم برمته إلى وثيقة بشأن العقيدة وتغير المناخ «دعوا فيها الدول إلى التخلص التدريجي من الانبعاثات الغازية المسببة للانحباس الحراري العالمي، وإلى التحول إلى الطاقة المتجددة بنسبة 100 في المائة».
قبل ذلك بنحو شهرين وفي 18 يونيو (حزيران) أصدر بابا روما فرنسيس الأول، ممثلاً عن كاثوليك وربما عن مسيحيي العالم رسالته المهمة «كن مسبحًا» والتي تعد صرخة للعمل على إنقاذ الأرض من أنانية الإنسان، وارتفع صوت البابا بالنقد للقمم العالمية حول البيئة في السنوات الأخيرة، تلك التي لم ترتقِ لمستوى التوقعات، والتي لا تقيم وزنًا للبيئة، وجل همها تعظيم الأرباح، وبذلك تنعدم أي فرصة للتنمية الحقيقية أو المستدامة حول الأرض.
المشاركون في مؤتمر باريس أمام مفصل تاريخي خطير، بين أكلاف الأطماع الاقتصادية الدولية، وأوهام السيادة الإمبريالية التاريخية، وهي إشكالية الإنسان مع الطبيعة عندما يزعم أن له السلطة النهائية والمطلقة عليها، دون وازع أو رادع، وحين يعتبر أن الأشياء هي ملكه وموضوعة لاستهلاكه، وبين فكر القناعة المعيشة بحرية وبوعي، حيث السعادة تكمن في الشراكة الإنسانية، وفي المقدرة على وضع حدود لكثير من المتطلبات التي تربكنا، والبقاء منفحتين بعضنا إلى بعض، وإدراك المسؤولية الأدبية تجاه الآخر، مهما كلف الأمر من عناء.
من ينقذ «أمنا الأرض» كما سماها أشهر متصوف عرفته أوروبا في القرن الثاني عشر فرنسيس الأسيزي رجل الطبيعة صاحب نشيد الخلائق؟