فاضل النشمي
TT

مأزق الكليشيهات العراقية

(1)
سمعنا ونحن صغار أن "نفط العرب للعرب"، لكن لم نفكّر من جهتنا بذلك، ولم يقولوا لنا من جهتهم كيف سيتم ذلك. لم نفكّر كيف يتسنى لمواطن سوداني او تونسي مثلا، ان يحصل على حصته من النفط المستخرج في بلاد عربية اخرى. صارت العبارة كليشة ثابتة نرددها دون هدى.
(2)
سمعنا ايضا، من خطب "الرئيس القائد" الكثير من الكلام عن اننا سنحرر فلسطين المحتلة من النهر الى البحر، لكن القائد لم يخبرنا هو الآخر عن كيفية حدوث ذلك، مع وجود عدو شرس ومتطور مثل اسرائيل. ومع ذلك حفظنا كليشة القائد دون ان نستطيع التقدم خطوة الى الإمام.
(3)
على جدار المدارس كانوا يكتبون عبارة "إزرع ولا تقطع" ومع مرور الأيام تحولت العبارة الى كليشة لا معنى لها، فما هو الشيء القابل للزراعة دون قطع، غالبا ما تساءلت سرا؟ يبدو لي أن لا أحد يريد منك الفهم، الكلائش هي الهدف ما دامت تحقق غرضها في الضياع وعدم التبصر.
(4)
أشعلنا حروبا كثيرة، كل حرب تنتج كلائشها الرثة. في حرب ايران 1980، قالوا اننا حيال عدو مجوسي فارسي يتربص بالإسلام، واننا حماة بوابة العرب الشرقية. انتهت الحرب وتحول تعبير العدو الفارسي الى الجارة المسلمة ايران وبقينا نجتر الكلائش.
(5)
لم يتساءل احد عن جدوى الحرب وعبثها، وما هي حجم الاضرار التي ألحقتها بالبلاد، ذلك لا يهم، المهم ان نخلق كلائش جديدة تنسجم مع الظروف. أتذكر أن أكثر كليشتين شاعتا في تلك الايام، هما " للقلم والبندقية فوهة واحدة" و"كل شيء من أجل النصر"، ولم يقل لنا أحد، ما هو الـ "كل شيء" الذي يتوجب علينا دفعه، وكيف يتسنى لأحد ان يجعل من القلم شبيها بالبندقية!
(6)
كان تعبير "منجزات الثورة" أكثر الكلائش شيوعا زمن البعث. كانت المنجزات، من قبيل، تأميم النفط، مجانية التعليم، الاصلاح الزراعي ...الخ، جارية على كل لسان، وكان طلاب المدارس والجامعات يحفظونها عن ظهر قلب من كثرة الترداد، وليس لأنها مادة مقررة في المناهج الدراسية، او لعلها كانت موجودة في منهج التربية الوطنية في المراحل المتوسطة والثانوية.
(7)
في المرحلة الجامعية قال أستاذ الثقافة القومية الفلسطيني لزميلي دانيال نمرود القادم من أقصى قرية في محافظة دهوك الكردية: دانيال أذكر لي منجزات الثورة؟ فما كان من دانيال الذي كان بالكاد يجيد التحدث بالعربية أن أجاب: دكتور لم اكن حاضرا في المحاضرة السابقة! فضحك جميع الطلبة.
(8)
الكلائش تفتقر لصلاحية البقاء فترات طويلة، فالناس تمل التكرار والرتابة، لذلك كان يتوجب على الساسة اختراع كلائش جديدة، وذلك بالتحديد ما حصل حين أحرقت تداعيات غزو الكويت 1991 كلائش الحرب الايرانية ببعديها الوطني والقومي.
(9)
صار التركيز على كليشة "المحافظة رقم 19" بعد إلحاق دولة الكويت بمحافظات العراق الـ18 أثناء الغزو آنذاك، كما تم الترويج حينها لمقولة "الفتية" الذين امنوا بالله وقلبوا نظام الحكم في الكويت. وبعد نحو ستة أشهر من الاحتلال، طردت القوات العراقية من الكويت، لاحت في أفق الجحيم العراقي البعيد كليشة "صفحة الغدر والخيانة" عقب ثورة الناس ضد الحكومة.
(10)
ظلت كليشة "الغدر والخيانة" رائجة لأوقات طويلة من عقد التسعينات وايام الحصار الدولي المفروض على العراق، وكما كان للفترات الثورية والحروب كلائشها المناسبة، كان للحصار نصيب من تلك الكلائش، وقد قفزت في تلك الايام كليشة "العبور الناجز"، ولم نعبر من الحصار إلا لندخل في مصائب أكثر هولا.
(11)
ظل العراق وما يزال عالقا عند عتبة الكلائش، والكلائش صيغة مبتذلة، وهي عبارة شائعة فقدت من فرط الاستعمال والتداول كثيرا من حيويتها وطرافتها وقدرتها على الإثارة"، كما تقول الويكيبيديا. وذلك يعني انها تعمية ودورة كلامية تافهة ليس إلا، و ليس من اهدافها ومزاياها الفهم والتحليل والفائدة.
(12)
مفهوم الكلائش اختراع حزبي أصيل، فحزب البعث مثلا، ظل يردد كليشة "الوحدة والحرية والاشتراكية"، وأيّ منها لم يتحقق، أما الشيوعيون فقد تمسكوا وما زالوا بكليشة "وطن حر، وشعب سعيد"، يا الهي من يجرؤ على التمسك بكليشة من هذا النوع لأكثر من سبعين سنة؟! في بلد مثل العراق عانى الأمرين عبر تاريخه من الاضطهاد والتعاسة. أما حزب الدعوة، فلم يكلف نفسه عناء الكلائش المكرورة، فهو حزب ضباب!
(13)
كانت كلائش نظام البعث موحدة، وتلك ميزة تفتقر اليها كلائش نظام الطوائف الاميركي. أضحى لكل حزب او جماعة او طائفة كلائشها المفضّلة، فمثلا الجميع يردد كليشة "حقوق المكون"، وكذلك اخترعوا "مظلومية الطائفة" ولا أحد يقول لنا من الظالم ومن المظلوم. كل طائفة وقومية اخترعت لها كليشتها ورمزها الوطني أو القومي.
(14)
الى جانب الكلائش المذهبية والإثنية الخاصة، وجدت الجماعة السياسية، بمكر ودهاء ان لا بد من تصدير كلائشها الخاصة والموحدة للجمهور من مختلف الطوائف، فمن وراء نزاعاتها، ثمة مصالح وتخادم مشترك، ومن المفيد لها ان يبقى الجمهور بعيدا عن ذلك، وسيكون من اللائق أن تتكرم عليه ببعض الكلائش للهو والتسلية. فاخترعت مثلا كلائش "محاربة الفساد"، "سيادة القانون"، "الوحدة الوطنية"، "النظام الديمقراطي"، "التوافق السياسي" وهكذا.
(15)
في البدء كانت كليشة الشيعة والكرد المفضّلة هي :"العراق الفيدرالي"، ثم تحولت بمعجزة الى كليشة مفضّلة لدى السنّة والاكراد!
(16)
صارت كلائش "فلول البعث" و"عملاء ايران" نماذج تفسيرية شائعة لكل ما يحدث. لم تقف أي جماعة سياسية بعد 2003 على أسباب الإخفاق الحقيقية، وظلت كلائش "الهم، النحن" تغذي عناصر الصراع وتزيدها اشتعالا، لم يجدوا لها حلا ناجعا سوى ان يضعوا في عربة الكلائش المهشمة كليشة "المصالحة الوطنية".