وليد أبي مرشد
صحافيّ وكاتب وخبير اقتصادي لبنانيّ
TT

سوق عكاظ.. أميركية

«مهرجانات» الانتخابات التمهيدية في الولايات المتحدة لا تزال في أولها. مع ذلك لم تخلُ حفلتها الأولى في ولاية أيوا من رسائل يصعب على العواصم العربية تجاهلها.
أبرز هذه الرسائل تلك الإطلالة «الناجحة» للمرشحين غير التقليديين وتقدمهم على المرشحين التقليديين في الحزبين الأميركيين الرئيسيين، من جهة، وارتباط هذه الإطلالة، من جهة ثانية، بالهواجس الأمنية المتفاعلة داخل الشارع الأميركي، الأمر الذي تعكسه حاليًا الطروحات الشعبوية الطابع لأولئك المرشحين غير التقليديين.
من الطبيعي ألا تظل حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية بمنأى عن ضغوط «الإرهاب» الذي ذاق مر طعمه الأميركيون في عقر دارهم.
ومن الطبيعي أيضًا أن يشكل موضوع أمن الأميركيين «القضية» الحساسة التي يتوسلها المرشحون الطارئون على المؤسسة الحزبية التقليدية في سعيهم لكسب أصوات الناخبين.
ولكن تكاثر الطروحات السياسية الشعبوية - كي لا نقول الغوغائية - في الخطاب السياسي الانتخابي للكثير من مرشحي الرئاسة الأميركية حوّل الحملة الانتخابية إلى سوق عكاظ أميركية يتبارى فيها المرشحون الغيورون على أمن الأميركيين في المزايدة على طول باعهم في مواجهة الإرهاب، بدءًا بمنع المسلمين قاطبة من دخول أراضي الولايات المتحدة (كما تعهد بذلك المرشح الجمهوري دونالد ترامب)، أو بجعل «رمال العراق وسوريا تتوهج من جديد» (كما وعد المرشح الآخر، تيد كروز).
وهكذا، وبحجة التصدي للإرهاب، فتحت انتخابات أكثر ديمقراطيات العالم شفافية، وتعقيدًا في نفس الوقت، الباب على مصراعيه لطروحات سياسية أقرب ما تكون إلى الغوغائية، وذلك وسط ظروف يبدو فيها الشارع الأميركي مهيًأ، أكثر من أي وقت مضى، للاستماع لخطاب يميني عنصري.
أفضل مؤشر على المناخ العنصري «المزدهر» حاليًا في الولايات المتحدة يمكن تلمسه من نتائج استفتاء للرأي أجراه العام الماضي مركز البحوث الأميركي المعروف «بيو»، والتي أظهرت أن عددًا وافرًا من الأميركيين باتوا مقتنعين بأن المسيحيين البيض «أصبحوا اليوم أقلية في الولايات المتحدة».
الصورة الراهنة لأوضاع الولايات المتحدة، الداخلية والخارجية، توحي ببروز مخاوف حضارية وإثنية في شريحة واسعة من المجتمع الأميركي فاقمها في الآونة الأخيرة، تخطي العمليات الإرهابية حدود الشرق الأوسط إلى أوروبا والولايات المتحدة نفسها، وكادت مجزرة سان برناردينو (كاليفورنيا) تحولها إلى هاجس قومي. ولا تخلو الساحة الخارجية من «خطر» عنصري آخر يزداد اهتمام الإعلام الأميركي به، ويتمثل في تنامي النفوذ الصيني في الشرق الأقصى إلى حد تحوله إلى خطر قائم على حرية الملاحة الدولية - والأميركية طبعًا - في بحر الصين (ما عكسه تعهد المرشح ترامب بالعمل على إعادة الولايات المتحدة إلى موقع «الدولة العظمى» من جديد).
لا تزال حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية في بداياتها، ما يعني أن من المبكر الحكم على اتجاهات الناخب الأميركي قبل تسعة أشهر من موعد الاستحقاق الانتخابي في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. ولكن مشكلة هذه الانتخابات تكمن اليوم في معطيين:
- الأول يعود إلى النظام السياسي الأميركي، وتحديدًا الثنائية الحزبية التي حالت، ولا تزال تحول، دون وصول مرشح «مستقل» عن الحزبين الرئيسيين إلى البيت الأبيض، الأمر الذي يحمل المرشحين الحريصين على أجندتهم الخاصة إلى «الاحتماء» بمظلة أي من الحزبين الرئيسيين في سعيهم لتحسين فرص فوزهم بالانتخابات (كما حدث مع المرشح دونالد ترامب الذي «عاد» إلى صفوف الحزب الجمهوري عام 2009)، علما بأن فوز أي مرشح منهم في دورة الانتخابات التمهيدية الحزبية يعزز فرص انتخابه رئيسًا للبلاد. وبقدر ما يمكن للنظام الحزبي الثنائي أن يستقطب مرشحي التيارات المتطرفة، فإنه يتيح لها فرصة التحول إلى سياسة رسمية للدولة في حال فوزهم بالانتخابات.
- أما المعطى الثاني فيكمن فيما يخفيه الدهر، وربما المخططات التكفيرية الدموية، من «مفاجآت» إرهابية قد تقلب أولويات الناخب الأميركي، خصوصًا إنْ هي حدثت قبيل موعد الاقتراع الرئاسي بقليل أو عشيته. وتبرز خطورة هذا الاحتمال على خلفية نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي سجلت تقلص الفارق بين الفائز والخاسر إلى أدنى الأرقام، بحيث باتت أصوات معدودة في حفنة من الولايات الأميركية ترجح الفوز على الخسارة.