عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

الانقلاب الأوروبي على اللاجئين

قضية اللاجئين عادت لتصبح من جديد الشغل الشاغل لأوروبا، ولكن من منظور مختلف هذه المرة. خلال العام الماضي كان التركيز منصبًا على الجانب الإنساني المأساوي لأزمة اللاجئين، خصوصًا أولئك الذين شردتهم الحرب السورية، وسلطت وسائل الإعلام الضوء على معاناتهم ناشرة القصص والصور المروعة التي أيقظت ضمير الناس وحركت السياسيين. وقتها رأينا صور الكثير من الناس في أوروبا يستقبلون اللاجئين بالورود، بينما عدد من الساسة يحثون على استقبال المزيد من اللاجئين ويوبخون بعض دول أوروبا الشرقية التي عارضت تدفقهم وتصدت لهم بالهراوات، والقنابل المسيلة للدموع، والأسلاك الشائكة على الحدود.
اليوم تبدو اللهجة الطاغية هي لهجة العداء للاجئين، والصوت الأعلى هو الداعي لسياسة تحصين الحدود، وتشديد القيود لمنع تدفق اللاجئين. في ألمانيا تراجعت الحكومة عن سياسة الباب المفتوح أمام اللاجئين خصوصًا القادمين من سوريا، وبدأت في تسريع فرز طلبات اللجوء لترحيل كل من لم يستوف الشروط. الأخطر من كل ذلك تزايد وتيرة الاعتداءات على الأجانب واللاجئين بشكل خاص، إلى حد أن الشرطة الألمانية سجلت نحو ألف هجمة على مساكن ومراكز إيواء اللاجئين خلال أشهر معدودة أخطرها كان إلقاء قنبلة يدوية على مركز للاجئين بينما كان نزلاؤه نائمين.
في السويد والنرويج وبلجيكا واليونان وغيرها تسجل حوادث متزايدة يتعرض فيها أجانب أو لاجئون إلى اعتداءات ذات طابع عنصري، بينما تطغى في كثير من وسائل الإعلام الأوروبية المعالجات التي تزيد في الشحن ضد اللاجئين والمهاجرين. ولأن الساسة في الدول الغربية تحركهم وتؤثر على سياساتهم اتجاهات الرأي العام وتغطيات وسائل الإعلام عندما تركز على قضية بعينها، فإن غالبية الدول الأوروبية بدأت تشدد سياساتها لاستقبال اللاجئين، وتفرض المزيد من القيود في منحهم إقامات على أراضيها. بعض الدول انتهجت سياسات مثيرة للجدل مثل الدنمارك والنرويج وسويسرا إضافة إلى إحدى الولايات الألمانية، عمدت فيها إلى مصادرة أي أموال أو حلي تكون في حوزة اللاجئين الجدد وتزيد قيمتها على نحو 900 يورو، وذلك بحجة أنها سوف تستخدم كمساهمة رمزية في نفقات إعاشتهم!
ما الذي حدث في غضون أشهر معدودة ليقلب الصورة رأسًا على عقب، وينقل المشاعر من التعاطف إلى العداء؟
الكثير قيل عن التأثير السلبي الواسع الذي خلفته حادثة التحرش الجنسي الجماعي الذي قامت به مجموعة من الشباب «الأجانب» ليلة رأس السنة في كولون، مما أثار ضجة واسعة في ألمانيا وصل صداها إلى بقية أوروبا. في البداية قيل إن مرتكبي الجرم من اللاجئين السوريين، ليعلن لاحقًا أنهم ليسوا سوريين وإنما من شمال أفريقيا (مغاربيين). الحادثة كانت مستهجنة بلا شك، لكنها لا يمكن ولا يعقل أن تفسر وحدها مشاعر العداء للاجئين والمهاجرين، ولا مسارعة الحكومات لتشديد سياساتها في موضوع استقبال اللاجئين. التغطية الإعلامية الواسعة والسلبية للحادثة تركت أثرها بلا شك، كما فعلت التغطيات الأخرى لحوادث متفرقة كان الفاعلون فيها من المهاجرين العرب أو ممن وصفوا بأن سحنتهم أو أشكالهم توحي بأنهم عرب. ففي ظرف أسابيع بدأنا نقرأ قصصًا متتالية عن ممارسات بعض اللاجئين سواء في التحرش الجنسي، أو خرق القانون و«القيم الحضارية». فقبل أيام مثلاً نشرت وسائل الإعلام عن عملية واسعة للشرطة لملاحقة خمسة شباب وصفوا بأنهم «عرب» إثر نشر فيديو يظهرهم وهم يعتدون على رجلين مسنين تدخلا لمنعهم من مضايقة فتاة والتحرش بها في مترو ميونيخ. مثل هذه الجرائم تبقى بالتأكيد قليلة ومعزولة، لكن طريقة معالجتها إعلاميا توحي وكأنها ظاهرة عامة، فتخلق صورًا نمطية سلبية تصب بدورها في تأجيج أجواء الشحن والكراهية ضد المهاجرين.
موضوع المهاجرين واللاجئين ظل دائمًا موضوعًا حساسًا ومثيرًا للجدل في أوروبا وقد أثار موجات من اللغط والنقاش في الماضي كانت تعلو وتهبط حسب الترمومتر السياسي والإعلامي، وحسب الظروف الاقتصادية، ووفقًا لأعداد القادمين الذين يطرقون أبواب القارة العجوز. اليمين السياسي المتطرف بقي دائمًا يستثمر موضوع الهجرة واللجوء للكسب السياسي، بينما ظهرت حركات عنصرية ترفع رايات العداء للمهاجرين وينتهج بعضها أساليب العنف. اليوم تواجه أوروبا مزيجًا من كل هذه العوامل، إضافة إلى بعد أمني جديد يتمثل في الخوف من تسرب إرهابيين وسط موجات المهاجرين، في وقت يطغى فيه القلق من الإرهاب عمومًا، وترتفع فيه مشاعر العداء ضد العرب والمسلمين. المفارقة أن الضجيج السياسي والإعلامي السلبي، وخلق الصور النمطية العدائية، لن يحل مشكلة أوروبا، بل سيفاقمها.
اللاجئون لم يختاروا الظروف التي تدفعهم لمغادرة بلدانهم، ومن الظلم أن يواجهوا بمشاعر من العداء تجعل حياتهم أقسى وأصعب في الدول التي يلجأون إليها. فإذا كانت أوروبا تتصرف هكذا، فماذا ستفعل دول مثل لبنان والأردن وتركيا التي تتحمل أضعاف ما تتحمله أوروبا من عبء اللاجئين!