رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

الجامعة الأميركية في بيروت ومصائر الثقافة الغربية بالمشرق

هذه السنة (2016) تنقضي مائةٌ وخمسون عامًا على إقامة الجامعة الأميركية في بيروت. وقد كان اسمها أولاً: الكلية السورية الإنجيلية، لأن الجمعية التي أنشأت المدرسة الثانوية ثم الجامعة هي جماعةٌ تبشيريةٌ بروتستانتية. وقد تعدَّل اسم الجامعة فيما بعد، وفقدت طابعها الديني أو التبشيري الحادّ، لكنّ شعارها الديني الأول لا يزال قائمًا على قوس بوابتها الرئيسية: «لتكونَ لكم حياة، وتكون حياةً أفضل»، وهو قولٌ منسوبٌ لبولس في رسائله الملحقة بالإنجيل أو العهد الجديد. ولا تزال للجامعة إدارة في نيويورك في نطاق الجمعية التي أنشأتها، كما أن الجمعية هي التي تعين رئيس الجامعة، ومجلس الأمناء، وتُستشار في المناصب الرئيسية أو العمادات، والسياسات العامة، والبرامج. وبالطبع فإنها لا تزال تدعم الجامعة بالمال عند الضرورة للمراكز البحثية والمنشآت الجديدة. بيد أنه في العقود الثلاثة الأخيرة، فإنّ الأساتذة والطلاب الأميركيين تراجعت أعدادهم كثيرًا، كما تراجعت التبرعات، بعد الانتكاسات التي حدثت للأميركيين وللسياسات الأميركية في الشرق الأوسط. فقد جرى تفجير السفارة الأميركية عام 1983، والقوات الأميركية التي جاءت للمساعدة في حماية المخيمات والجيش اللبناني مع الجنود الفرنسيين والإيطاليين (1984). والخطير الخطير بالنسبة للجامعة كان خطف رئيسها الدارس الشرق أوسطي المعروف مالكولم كير عام 1983 وما ظهر بعد ذلك. والمعروف أنه في العام 1982 أخرج الغزو الإسرائيلي الجيش السوري من بيروت مع إخراج ياسر عرفات والقوات الفلسطينية. ومنذ ذلك الحين صار هناك عمل سري ضد البُنى والأفراد الذين بقوا لياسر عرفات من جانب المخابرات السورية، ومن جانب تنظيمات إيران الناشئة ضد الأميركيين والفرنسيين، وضد التقدميين والقوميين من الشيعة اللبنانيين.
ولماذا هذا الاستباق والاستطراد؟ فقصة الجامعة الأميركية في بيروت حتى الحرب اللبنانية عام 1975 هي قصة نجاحٍ كامل. فالعمل التبشيري من خلال التعليم لم يبدأه بلبنان والمشرق بعامة الأميركيون، بل اليسوعيون الذين أنشأوا مدارس إرساليات ثم أنشاوا جامعة القديس يوسف، فنافسهم الأميركيون بإنشاء المدرسة فالجامعة ببيروت. وما أنشأ الإنجيليون الأميركيون جامعةً أخرى مماثلة بالمشرق، الذي غصّت بلدانه ودوله بعشرات المدارس التبشيرية الكاثوليكية والبروتستانتية.
ما كانت لدى اليسوعيين والفرنسيين المنتدبين على لبنان وسوريا طموحات تتجاوز خدمة الرعايا الكاثوليك في التعليم، وبناء كوادر للإدارة من المسيحيين وبعض المسلمين. أما الأميركيون فقد طمحوا مع تقدم الولايات المتحدة إلى مصاف الدول العظمى ثم الدولة الأعظم بعد الحرب الثانية، إلى تحويل المشرق العربي إلى منطقة نفوذ، من طريق صنع إدارات عربية وشرق أوسطية لمكافحة الشيوعية في الحرب الباردة بين الجبارين، ومن طريق نشر الثقافة الحرة العلمية والإنسانية، وإطلاق البرامج التنموية الضخمة. وبدا لبنان البيئة الأكثر حرية والأكثر استعدادًا لتقبل حرية الثقافة، والأكثر قدرةً على الاستقبال فيما بين الأربعينات والثمانينات من القرن العشرين. ولذا فإنّ الجامعة الأميركية كانت تستقبل طلابًا من كل دول المشرق العربي وباتفاقات مع الحكومات بشأن المِنَح. وبعد العراق والأردن ومصر، بدأ تدفق الطلاب الخليجيين بمنحٍ وبدون مِنَح. والطريف أنّ التيارات القومية العربية وغيرها، والتيارات الشيوعية لقيت ازدهارًا في الأربعينات والخمسينات بين طلاب الجامعة الأميركية. إنما الطريف أيضًا أنّ تقدميي الطلاب والأساتذة ما جاءوا من أقسام ودوائر الإنسانيات أو العلوم السياسية (باستثناء قسطنطين زريق السوري الأصل، وقد تولى رئاسة الجامعة أيضًا!)، بل من كليات الطب والهندسة والاقتصاد والأعمال. وما أنشأت الأميركية كليةً للحقوق بعكس اليسوعية ثم اللبنانية. ولذلك ما كان للجامعة نصيبٌ بارزٌ في الحياة السياسية اللبنانية والسورية، باستثناء الدكتور سليم الحص في لبنان في الثمانينات (وهو اقتصادي)، وبعض المسؤولين في العراق والأردن وفلسطين من ذوي التخصصات العلمية. لكن لو تجاوزنا الحياة السياسية إلى ما يجاورها في الاقتصاد والاجتماع والإدارات الطبية والمؤسسات الإنشائية والتجهيزية والتربوية، فإننا سنجد حتى في اليونان وتركيا والسودان وبالطبع في بلدان الخليج عشرات القادة الإداريين والتربويين الذين نشّأتْهم الجامعة الأميركية في بيروت. ولذلك فعندما حضرتُ عام 1966 بعض احتفالات الجامعة الأميركية بمئويتها الأولى بواسطة أحد الأساتذة (كنت وقتها في السابعة عشرة، ولا أعرف الإنجليزية، وأدرس بالأزهر بمصر!)، وجدتُ المشرق العربي والخليج كلَّه حاضرًا بمسوؤليه السياسيين (الدرجة الثانية)، ومسؤوليه الإداريين. وتعكس ذلك الكتب التي صدرت عن المئوية في كل المناحي: الأدبية والثقافية والتربوية والسياسية والإدارية والطبية والهندسية. وقد أتى وقت كانت فيه مجلة الأبحاث التي كانت تصدر عن كلية الآداب والعلوم بالجامعة، أهمَّ المجلات الأكاديمية في العالم العربي، ولا تنافسها على هذا الموقع غير مجلة كلية الآداب بجامعة القاهرة.
لماذا تراجعت الجامعة الأميركية، أو لماذا تراجع دورُها، وهل لذلك علاقةٌ بالفعل بمصائر الثقافة الغربية بالمشرق، كما ذكر معلقون كثيرون بهذه المناسبة؟
لا شكّ أنّ العاملَ الأول في تراجع عربية ثم عالمية الجامعة، كان الحرب الأهلية اللبنانية، ودخول إسرائيل على خط إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان بالتعاون مع الولايات المتحدة والرئيس حافظ الأسد، وكلٌّ لأسبابه. وعندما طال الأمر على الحرب والخراب العمراني والسياسي، استغنى العرب عن الجامعة كما استغنوا عن بيروت، باستثناء الصفقات العقارية. وصار معظمهم يذهبون رأسًا للجامعات الغربية، أو للجامعة الأميركية بالقاهرة أو أنقرة. وهذه أسباب عينيةٌ واضحةٌ إذا صحَّ التعبير.
إنما لا بد من ذكر ملاحظةٍ أعتبرها أكثر عمقًا. فقائد السياسات العربية تجاه الولايات المتحدة في الخمسينات والستينات كانت مصر، وكان الرئيس جمال عبد الناصر. وما كان الرجل أو النظام يملكان موقفًا من أميركا ومؤسساتها، رغم سيطرتهما جماهيريًا على بيروت طوال عقدين. وأفاد الفلسطينيون من الجامعة أيضًا. بينما ما كان للسوريين الذين سيطروا على لبنان منذ أواخر السبعينات اهتمام حقيقي بالجامعة وإن لم يُعادوها وقد أقاموا بعض العلاقات الزبائنية من أجل أولادهم ومرضاهم. لكنهم ما اعترضوا بالطبع عندما بدأ العمل السري للتنظيمات الإيرانية بعد عام 1982، وقد قاموا هم بأعمال مشابهة ضد رجالات عرفات في بيروت والجامعة الأميركية.
ولنصل إلى نقطة ختامية. نعم لانخفاض دور الجامعة الأميركية ودور بيروت علاقةٌ بانتكاسات السياسة الأميركية في الحرب الباردة وبعدها. وإنه ليُحسَبُ للجامعة أنها استطاعت الاستمرار، وكسبت بعض نقاط العودة أيام الرئيس الحريري في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي. لكنّ الروح المشبوب انقضى ولن يعود، إذ هناك فصامٌ عربي وإسلامي استعصى على الانقضاء بين العلم الغربي المقبول والثقافة الغربية المرفوضة، ورمزه الذي لم يُنس: خطف رئيس الجامعة وقتله عام 1983. ثم السيطرة السورية فالإيرانية على لبنان وسوريا والعراق. ولذلك لا داعي للحديث عن «رسالة الجامعة» بحسب مقالة قسطنطين زريق الشهيرة، ولنفكر بهدوء أو بعجلة في التغيير التخريبي الذي نال من المشروع العربي لإقامة دول حديثة!