سارة ربيع
TT

دائرتك الاجتماعية تتغير

تقف الإنسانية حائرة أمام تفسير طبيعة العلاقات البشرية في الدائرة الاجتماعية لكل فرد في المجتمع. هل يحب الفرد أمه أكثر أم أباه؟ هل يفضل الخال على العم؟ أم العمة على الخالة؟ أيهما اقرب..أهل الأم أكثر؟ من يحمل مفتاح أسراره وحكاياته أبناء العم أم بنات الخالة؟ تهلكنا الحسابات والمعادلات، تتغير أحيانا بتغير نمط حياتنا اليومية، لكن مشاعرنا الأولى تجاه الأهل لا تغيرها الأيام.
ترتبط تلك الحالة مع الأدوار والألقاب الاجتماعية الجديدة التي يحصل عليها أبناء جيلي من الثمانينات حالياً، من يدخل عتبة "الثلاثين" ويتحمل مسؤوليات تكوين أسرة، ينسحب من تحت أقدامهم بساط الدلع واللعب والتهور، لينضموا سريعا إلى مضمار المسؤولية والجمعيات ومخططات الحياة المستقبلية.
قد تستيقظ صباحاً لتجد نفسك "عم" أو "خال" ، كما حدث معي، فلقد أمضيت سنواتي العشرين وأنا أتربع فوق لقب "آخر العنقود" ومنصب "الابنة الوحيدة" في الأسرة، إلى أن أهدانا أخي الأكبر، طفلا جميلا اسمه "يحيي" لأصبح بين ليلة وضحها "عمة"!
حينها شعرت أنى الآن اكبر، الآن فقط هناك من يأخذ مرتبة الدلع كله في قلب أمي. وبالمناسبة، في إحدى الليالي سألت أمي بكل براءة وهدوء (من تحبين أكثر، أنا أم يحيي؟) رأيت في عينيها استنكار واستياء لم أرهما في حياتي، وانتهي الحديث بألا أطرح مثل تلك الأسئلة الساذجة مرة أخرى، لأن الإجابة "يحيي" بالطبع، نعم..أعز الولد ولد الولد.
أمضت أمي من سنوات حفيدها التسع، سنة وخمسة أشهر ربما كانوا أسعد أوقات حياتها، نسيت مرضها وتعبها، وحفظت الأغاني وسخرتنا جميعا لحبه والحياة في فلكه.
في يوم وفاتها، وهي تنتهي من الوهن والتعب وسكرات الموت، تفيق فجأة وتطلب مني أن ارفعه إلى حضنها، لتقبله وتحتضنه بشدة، ينزل هو من بين يديها، يجري لإحضار عكازها الطبي.. لكنها تفارق الحياة في سلام كوني خفيف، كرحلتها القصيرة إلى الدنيا.
حينها وهي تقبض علي يدي، مررت لي حبا إضافيا لحفيدها دون أن أدري. فصرت لا أرى جمال الحياة إلا بعينيه، أخذ "يحيي" بيدي من قسوة تلك التجربة المهلكة، عبر بي بطفولته البريئة وألعابه وعشقه للملوخية والاختراعات اليدوية، إلى مناطق من الراحة النفسية والسكينة لم أعرفها من قبل. علمني الصبر وحب البدايات، وكيف أعيش اللحظة، ومن أين أرى الضحكة وهي تخرج من قلبي.
لو أن هذا الطفل ذا التسع سنوات يعلم الآن مدى الدين الذي أحمله له في رقبتي، لامتلأ قلبه بالنور أكثر وأكثر.. وقدمت "العمة" الهدايا أكثر وأكثر.
كانت هذه التجربة أول إدراكي بلقب "عمة"، هو أن ترى قطعة حب من أخيك، تتحرك بينكما، تصل الأيام في عقد من الفضة البسيطة.
في لقطة ما، تستطيع أن تلمس كيف أنك تخرج من دائرة الشباب إلى النضج، الذي لا يمنعك من لحظات الجنون العادية، وان ترتيبك في دائرتك الاجتماعية تغير قليلا، وقد تدور الدائرة وتصبح أما وأبا.
ربما الجانب الغامض في لقب "العمة" هو أني أصبحت أدفع "العيدية" النقدية في الأعياد بدلا من الحصول عليها كما تعودت.
ولكن يهون هذا بما قالته جدتي ذات مرة، إن قلوب الأطفال بريئة ونقية وعلى الفطرة، لم تعرف الكذب أو المجاملات بعد، فوجودك في محيط هذا النقاء يضيء الطريق، ويجعلك تؤمن أن هناك أملا حتماً في نهاية الممر الضيق.
نيسان شهر "يحيى" ليكن له كل الحب والحظ في سنواته القادمة..