غالية قباني
كاتبة وروائية سورية مقيمة في بريطانيا من اسرة «الشرق الأوسط»
TT

سوريا بين جلاء واستعمارين.. من وصاية الانتداب إلى وصاية الكرملين والولي الفقيه

لست من الجيل الذي وعى على فترة الاستقلال المعروف سورياً باسم "الجلاء"، لكني من الجيل الذي بجّل آباء هذا الاستقلال وساوى بينهم في الاحترام على اختلاف طوائفهم وقومياتهم، كما ساووا هم في احترامهم لمكونات سوريا تحت مظلة المواطنة الواحدة، وهي سمة لن يجرؤ نظام الاسد على مرّ 46 سنة من حكم فرد وهيمنة عائلة، التباهي بها. فهو نظام قام على غسل عقول مكونات الشعب السوري من خلال ذراعه المدنية من منظمات أطفال الطلائع والشبيبة وطلبة الجامعات، والنقابات، حيث كرس صورة الأب ثم الابن الوريث رمزا للوطن، فلا رمز وطني تتذكره الأجيال التي كبرت في عهدهما غير الصورة الضخمة التي تتصدر الصحف أو تهبط على ارتفاع طوابق الأبنية، أو تمثال الأب موزع بأحجام مختلفة في اكثر من ركن في البلاد.
وان كنا نتحدث عن تبجيل الآباء المؤسسين للاستقلال، فان موقفنا هذا لم يكن نتيجة تربية مدرسية او سياسة تعليمية او احتفاء اعلامي رسمي، انما هو وجدان الشعب الذي لا يمكن اخفاؤه تحت غبار بساطيل العسكر والأمن، وهي الذاكرة الماكرة لعقول منفتحة على المعرفة، من خلال الدراسات والروايات التي صدرت في سوريا او خارجها، او من خلال جانب من الدراما، السينمائية والتلفزيونية التي فرضتها اصوات مثقفة لم تستوعب فكرة انها "تنتمي لشعب بلا جذور وطنية"، حسبما أراد النظام أن يروج.
قبل ايام ومع اقتراب الذكرى السبعين لجلاء الفرنسيين عن سوريا، الذي يصادف اليوم 17 ابريل (نيسان) 1946، خطر ببالي أن أكتب عن المناسبة، في حنين لمعنى "الوطنية السورية" التي شهدتها البلاد قبل وبعد الجلاء ولو لسنوات قليلة. ووقعت على خطاب شكري القوتلي أول رئيس سوري، ألقاه يوم الاحتفال بالجلاء في 17 إبريل (نيسان) 1946.

كانت المرة الاولى التي أطلع فيها على هذا الخطاب الذي فاجأني ما وجدت فيه من معان سامية افتقدناها في الخطابات الانشائية الرنانة التي طالما عرضها على أسماعنا الأب والأبن لست وربعين سنة.
يبدأ شكري القوتلي أول رئيس لسوريا خطابه بعبارة: "بني وطني".. وما احلاه من تعبير نابع من القلب صادق في مخاطبته للشعب الذي يؤمن انه يشاركه هذا الوطن. ثم يتبعها القوتلي بعبارة: "أهنئ اليوم هذه الأمة، شباباً وشيباً، هلالاً وصليباً". ولا ينسى مكونات الشعب السوري على مختلف فئاته، ولا ينسى التاجر والكاتب والشاعر، او الفلاح والطالب، وحتى ربة البيت في خطابه.
ترى هل خاطب الاسد الاب مرة السوريين بهذه الصفة، حتى في خطابه الاول بعد سيطرته على العرش تحت مسمى "الحركة التصحيحية" في 16 نوفمبر (تشرين الثاني) 1970؟ لا.. فمع حكمه، كرس تقليد إلقاء الخطابات باقتصارها على مخاطبة أعضاء مجلس الشعب (الذين سيتم التدخل في اختيارهم عبر اختراقات عديدة مثل قوائم الحزب والأمن)، اما الشعب نفسه، فمغيب ولا تتم مخاطبته لأنه لن يكون فاعلا في الحياة السياسية التي اختطفت، وهو ليس أكثر من جمهور يتابع الخطاب في وسائل الإعلام، وسيستمر هذا النهج في خطابات الابن.
لنقارن ايضا خطاب أول رئيس لسوريا، بخطاب القسم لبشار الاسد صيف عام 2000 بعد تسلمه الحكم في أعقاب وفاة والده حافظ الاسد، حيث يرد اسم "الشعب" فقط لكونه انتخبه، يقول "ومن على هذا المنبر أتوجه بالشكر الخاص لأبناء شعبنا بكل فئاته رجالاً ونساء كباراً وصغاراً داخل سوريا وخارجها، الذين منحوني ثقتهم من خلال الإدلاء بأصواتهم في الاستفتاء ومشاركتهم في هذا الواجب الوطني".
لقد تأخر الرئيس بشار في خطاب القسم عام 2000 عقودا عن مضمون خطاب الاستقلال، فلم يحتف بتنوع السوريين واطيافهم كشعب عريق، وأكد هو ايضا منذ بدء تسلمه، انه يخاطب مجلس الشعب الذي يختصر في تمثيله المزيف شعبا بمفهومه هو أنه "لا يستحق المخاطبة المباشرة".
اما لاحقا وبعد اذار 2011، فلم تلحظ خطابات بشار الاسد، السوريين، إلا من خلال تصنيفين: ارهابيين (منتفضين عليه وصفهم أيضا بالميكروبات والجراثيم)، وشرفاء (موالين له ولو حرق البلد).
لنعد لما قاله شكري القوتلي في خطابه الذي انصف فيه الجميع، مناطقيا ومذهبيا وقوميا، ومدنيا ايضا، في استحقاق الاستقلال الذي استحقه الجميع ولم ينسب فضله الى مجموعة حزبية او عسكرية "سلوا هذه الغوطة الفيحاء عن معاركها الشعواء. سلوا جبل العرب الأشم تنطلق منه الثورة الكبرى، يقودها سلطان الأطرش. سلوا ربوع الشمال وجبل الزاوية عن ثورة هنانو، وجبال العلويين عن ثورة صالح العلي. سلوا سهول حمص ووادي حماة، وتلكلخ والمزرعة وحوران. سلوا راشيا والقلمون. سلوا هذه البيوت التي دمرت، والمزارع التي أحرقت، والمتاجر التي نهبت. سلوا المنافي والسجون. سلوا دماء الشهداء أي ثمن دفعناه لاستقلالنا، وأي جهد بذلناه لبلوغ أهدافنا".
ويمضي في خطابه الطويل الذي لا ينسى فيه ان يركز مرة أخرى على تنوع الشعب السوري، فيقول: "إني لأرجو، على ضوء ما أسلفت، أن نمضي في عهدنا الإنشائي في مساواة لا تفرق بين الأديان والمذاهب، ولا تقيم وزناً لعصبيات الأعراق والطوائف. فنحن حقاً أمة واحدة موحدة، لا أقليات فيها ولا أكثريات".
وها سبعة عقود قد مرت، فتت خلالها حكم العسكر (الذي لبس بدلة مدنية للتمويه) وثيقه العهد التي اطلقها اول رئيس منتخب بعد الاستقلال، وهدم كل ما يمكن ان يثبّت السوريين أمة واحدة، بل شوش هذا الحكم على مفهوم الامة، بتوسيعها الى حدود المحيط الاطلسي كي يشغل السوريين بتفاصيل 22 بلدا بعيدا عن سوريا التي لا دور لهم في صياغة حاضرها ومستقبلها.
سبعة عقود مرت على استقلال سوريا من حكم الانتداب الفرنسي والوصاية الدولية، انتهت اليوم بحكم وصاية من بوتين روسيا، تحت راية خامنئي وميليشياته، داسوا على كرامة سوريا بعد ان داس حاكمها ونظامه على كرامة السوريين، وفتتوا ما كان قطعة واحدة من نسيج هذا الشعب وتركوا الوطن آنية مكسورة متناثرة الى عشرات القطع، كم يصعب ان يعاد تجميعها كما استلمها الآباء الأوائل عند الاستقلال وكما وردت في خطاب القوتلي أ ول رئيس لسوريا قبل سبعين سنة.