د. فهد بن سعد الماجد
* الأمين العام لهيئة كبار العلماء
TT

ما لا يريد أن يفهمه المتطرفون..

يمتلك الإسلام نظرية شاملة عن «السلام»، ومن مقاصده الكبرى التي تنزَّل عليها هذا الدين العظيم: «تحقيق السلام في العالم»، وقد يكون ذلك غريبًا عند بعض غير المسلمين، الذين تكونت لديهم صورة نمطية مشوهة عن دين يزخر بِكَمٍّ كبير من المبادئ والقيم والمثل؛ لكن ليس هذا الإشكال؛ الإشكال: أن بعض المسلمين قد لا يكون ذلك مفهومًا لديهم بوضوح، والسبب: أن الكثير لا يحسن قراءة الأفكار الأصيلة، والمقولات الأساس، وذلك مظهر من مظاهر الوهن الفكري.
وعند إطلاق كلمة «السلام» ينصرف الذهن مباشرة إلى أنه ضد الحرب ليس إلا؛ بيد أنه في الإسلام أوسع نطاقًا من ذلك: يبدأ من السلام مع النفس بالإيمان الذي يمنحها الطمأنينة، ثم السلام مع الإنسان المبني على العدل، ثم السلام مع الحياة التي ترتكز على «الإصلاح»، والإصلاح المتجدِّد يضمن السلام المستمر.
ومن الإشكال حول العالم وليس عند بعض المسلمين فحسب؛ أنه ينظر إلى السلام على أنه فكرة ذرائعية الهدف منها التوصل إلى غاية أخرى، قد تكون السيطرة السياسية أو التجارية أو غير ذلك، وهذا الفهم الذرائعي شائع في العالم كله، بحسب ما ذكر (رينوفان) (ودروزيل) في كتابهما «مدخل إلى تاريخ العلاقات الدولية»، حيث لاحظا أن جميع الانشغالات بالسلام لم تكن إلا آيديولوجيات مصلحية.
إن الانتقال بالنظر إلى السلام من كونه ذريعة إلى كونه غاية، ومن كونه وسيلة إلى كونه مقصدًا، ضرورة مقاصدية تعدل من وضعنا الحضاري، وتحقق العدل في العلاقات الإنسانية.
ومن ثم فإنه ينبغي أن يُنْظَر إلى السلام على أنه قضية حضارة، لا قضية سياسة، وهذا ينبه إلى خطأ شائع في العالم الذي ينظر إلى السلام باعتباره قضية سياسة؛ إذ أخذه بهذا المنظار يضيق جدًا من مساحة مفهومه أولاً، ثم إنه ينقله من صيغة النظرية التي تتميز بالتكامل عمقًا وشمولاً إلى صيغة الحدث المرتهن بمصالح محدودة.
أما في الفهم الإسلامي فإنه يُنْظَر إليه باعتباره قضية حضارة بالأصل، وقد يكون قضية سياسة بالعرض، ومعنى كونه قضية حضارة: أنه ينبع من الفهم العميق للإسلام؛ ولذلك فالتعبير الدارج أن السلام يلتقي مع الإسلام، الأصح منه: أن السلام ينبع من الإسلام.
ولما كان الإسلام منشغلاً بالسلام، ومتطلعًا لتحقيقه، فقد دعا إلى ضروب كثيرة من القيم والمثل التي تساعد على أن يعم السلام العالم وتسوده الطمأنينة، ومن أهم تلك القيم والمثل ثلاث ركائز أساس، من الضروري للبشرية أن تركز على تحقيقها وتفعيل دورها لأجل سعادتها ورخائها، وهي: العدل، والتعليم، والإغاثة. وكل هذه الركائز الثلاث تستطيع أن تقرأها بوضوح في نصوص الإسلام القرآنية منها والنبوية، فالعدل يأمر به الإسلام مع القريب والبعيد، والصديق والعدو، حتى لو جرَّ هذا العدل ضررًا إلى النفس فإن تحقيقه مقدم على المصلحة الشخصية، ولا شك أن العدل ضروري لإصلاح العلاقات الإنسانية، ومحترفو السياسة يقررون ذلك من واقع تجاربهم، مثلما قال داويت آيزنهاور: «السلام والعدل وجهان لعملة واحدة».
والتعليم ليس من صميم الدين الإسلامي فحسب؛ بل هو واجهته وعنوانه، فقد كانت أول آية أنزلت من كتابه العظيم؛ هي «اقرأ»، والتعليم بلا شك يحسن من مستوى البشر المادي، لكنه أيضًا، وهذا أهم، يحسن من مستواهم العقلي؛ ويجعلهم أقدر على مداولة الأفكار، ومناقشة القضايا. وكثير من المشكلات حول العالم إنما منشؤها الجهل الذي ضده العلم، أو التجاهل الذي ضده «التواضع لقبول الحقيقة».
والإغاثة لها نفس القدرة في إصلاح العلاقات الإنسانية؛ سواء كانت هذه الإغاثة طبية أو غذائية أو غيرهما؛ وكما أن لها قدرًا عظيمًا في الإسلام من خلال نصوصه التي جعلت في كل كبد رطبة أجرًا، فإنها، أي الإغاثة، من جسور السلام، والإنسان بفطرته يقابل الإحسان بالإحسان؛ ويحب من أحسن إليه.
ونستطيع أن نقول إن عالم اليوم بحاجة ماسة إلى أن يتعلمَّ، ويتغذى، ويصح، ويتعامل مع قضاياه على أساس العدل؛ وهذا الخطاب الإنساني الذي هو من صميم الدين الإسلامي لا يفهمه المتطرفون الذين تراهم يخربون بيوتهم بأيديهم.
* الأمين العام لهيئة كبار العلماء