بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

أجيال الزمن المقبل.. من يحصنها؟

غابَ عن مقالتي بعدد الأربعاء الماضي «الإسلام ليس للمسلمين وحدهم» أمران، لكل منهما دلالة تستحق التذكير بها. لكن المساحة المخصصة لهذه الزاوية حالت دون ذلك. أول الأمرين يخص اهتمام مجتمع بريطانيا السياسي وتفاعله، من خلال تنوع مؤسساته ومختلف مستوياته، مع كل نجاح حققه مسلمو هذا البلد. وثانيهما يتعلق بحرص شخصيات غير مسلمة ذات حضور وازن ومقام معتبر، على دفع الأذى عن الإسلام والمسلمين كلما جرى استغلال جُرم الإرهاب في شن تهجّم عنصري معادٍ لجوهر الإسلام وإسهامه الحضاري، وللمسلم كإنسان.
في النقطة الأولى، كنت بصدد التذكير بتفوّق ملحوظ لعدد من مسلمي بريطانيا مكّنهم من صعود أعلى مراتب السلم الوظيفي، وفتح أمام عدد منهم أبواب النجاح في غير مجال. بين هؤلاء، شخصيتان من الوجوه البارزة في حزب المحافظين، ساجد جويد، وزير التجارة في الحكومة الحالية، والبارونة سعيدة حسين وارسي، التي تولت مسؤوليات وزارية عدة، والتي لم تتردد، العام الماضي، في الاستقالة، عندما رأت أن موقف حكومتها من مواقف إسرائيل ضد أهل غزة، كان دون المستوى المطلوب. وهناك أيضًا الشابة نسيم (ناز) شاه، التي كانت حتى أسبوع مضى تشغل موقع مساعد وزير الخزانة في حكومة الظل العمالية، لكنها دفعت باهظ الثمن سياسيًا، ليس لسوء حظ، بل نتيجة اللعب غير المتزن، في ملاعب «فيسبوك»، ثم إنها دفعت بكل حزبها إلى أتون أزمة قد تطيح بقيادة جيريمي كوربين نفسه للحزب. وبين مسلمي هذا البلد أيضًا نجوم سطعوا في فضاء إعلام بريطانيا التلفزيوني، مثل المذيعتين زينب بدوي وميشال حسين، وكذلك كمال أحمد، المحرر الاقتصادي لـ«بي بي سي»، وفيصل إسلام، المحرر السياسي لـ«سكاي نيوز». وبينهم الجزائري الأصل رياض محرز، لاعب كرة القدم بنادي ليستر سيتي، الذي فاز بالدوري الإنجليزي الممتاز، وكان محرز قد حاز قبل أيام لقب أفضل لاعب، وفق اقتراع رابطة الأندية.
أما في سياق النقطة الثانية، فكانت تجدر الإشارة لمواقف شخصية من مقام الأمير تشارلز، ولي العهد وأمير ويلز، في الحديث عن تأثره بما قرأ من التراث الإسلامي، وإعجابه بالعمارة الإسلامية، وكيف أن القرآن الكريم يتضمن «رؤية تكاملية للكون تشمل الدين والعلم والعقل والمادة». أليس من العجب أن يقدم الأمير تشارلز كتاب المسلمين المقدس على أساس أنه منهاج شامل لحياة الناس، بينما يروّج واضعو فكر الإرهاب باسم الدين لآيات محددة، بقصد اختزال كتاب الخالق فيما يبرر قتل الخلق بلا أي مبرر؟
بلى، وكلا. نعم، لأن فهم الجوهر الإنساني لرسالة الإسلام نعمة يحظى بها أولو ألباب، حيث تنشرح صدورهم فتقبل عقولهم ما يقبله كل ذي قلب سليم. أما الذين ضاق الصدر منهم بتقبّل عالمية الرسالة المحمدية ورحمتها «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين» فقد سدت أكِنّة على قلوبهم الباب أمام القبول بحق كل مخلوق في الحياة، وميّز هؤلاء أنفسهم بتزكية ينهى عنها القرآن الكريم «ولا تزكوا أنفسكم» حتى بين بني قومهم، فما العجب إنْ هم أباحوا سفك دماء غيرهم؟
الواقع أن المتابع لما يشهد العالم من فظائع قتل البشر وتشتيت شمل الأُسر، باسم دين عالمي الرسالة والجوهر، يعجب أمام تردد بعض المرجعيات الوازنة في العالم الإسلامي، إزاء الإقدام على خطوات تسد نهائيًا باب تأويل آيات محددة، بما يسهّل على فكر التنطع غسل أدمغة شبان وشابات، ويبرر إجرام القتل والإفساد في الأرض. يحصل هكذا تكاسل، فيما تنشط شخصيات ذات وزن وصفة مرجعية دينية من غير المسلمين في الدفاع عن الإسلام عندما يقتضي الأمر، ولا يترددون في الفصل بينه وبين إجرام القتل باسمه. فهل من أمل أن يرى جيل أترابي بعض التغير المؤمل على أيدي مرجعيات إسلامية، بما ينفع أجيال الزمن المقبل، ويحصنها ضد أشكال التطرف كافة؟ ربما.