إليوت كوهين
TT

صفقة سيئة بحق لأميركا

من الممكن أن تنظر إلى دونالد ترامب كديماغوغي موهوب، أو عرض للأمراض الضاربة بعمق في جسد الدولة، لكنه كذلك صاحب أفكار – مقدمة في إطار فج، وغير متماسكة أحيانًا، لكنها تبقى أفكارًا. ولا يتجلى هذا قدر تجليه على صعيد السياسة الخارجية.
تضمن الخطاب الذي ألقاه في هذا الشأن الشهر الماضي، عددًا من العناصر التي كان من الممكن أن ينطق بها أي سياسي من التيار السياسي العمومي في أميركا في النصف الثاني من القرن الماضي: وهو أنه ينبغي للولايات المتحدة أن تمتلك أقوى جيش في العالم؛ وأننا نرغب في أن نعيش بسلام مع كافة الدول، بما في ذلك روسيا والصين؛ وأنه لا يمكن السماح لإيران بتطوير أسلحة نووية؛ وأن إسرائيل صديق وثيق؛ وأن ضبط النفس علامة من علامات القوة.
تأثرت موضوعات أخرى بآراء عبر عنها الرئيس أوباما ومستشاروه، وهي أن حلفاءنا يحصلون على دعمنا مجانًا؛ وأن الشرق الأوسط هو فوضى ينبغي تجنبها؛ وأنه آن الأوان «لبناء الدولة» في الداخل؛ وأن مؤسسة السياسة الخارجية تغص بأشخاص من المتعلمين بشكل زائد عن الحد تعوزهم الكفاءة.
ثم هناك اللمسة الترامبية المميزة: شعاره «أميركا أولاً» الذي يستلهم حركة سيئة السمعة قبل الحرب العالمية الثانية لم تكن تضم الانعزاليين التقليديين فحسب، بل والمتعاطفين مع النازية كذلك.
وبشكل أساسي، يعكس الكثير من الاختلاف بين ترامب وأوباما الأسلوب أكثر من المضمون. جاء أوباما مستبعدًا ما رآه «أجندة حريات» مضللة في عهد إدارة بوش، وصمم على إبرام اتفاقات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وكما نعرف الآن، مع إيران، بقيادة خامنئي.
إن ما يفعله ترامب لا يعدو مجرد نقل هذه الآراء خطوات أبعد والتعبير عنها بصوت أعلى قليلا. هو يعبر عن إعجابه ببوتين، ويعتقد بأن التجارة الحرة ما هي إلا مرادف للصفقات السيئة، ويسخر من الدور المتفرد الذي تلعبه أميركا كوصي على النظام العالمي.
على الناخبين أن يراجعوا تصريحات ترامب عن كثب ليس فقط لما تعنيه للحزب الجمهوري، بل لما تعنيه بالنسبة إلى إجماع السياسة الخارجية الأميركية على مدى جيلين. وحتى في هذا العهد من الشراكة، كان هناك قدر كبير من الاتفاق بين الحزبين، عززه المسؤولون والخبراء والأكاديميون الذين يتشاركون رؤية استشرافية مشتركة.
وكانت هذه الرؤية تعتبر أن المصالح الأميركية متداخلة بشكل حتمي مع القيم الأميركية، وأن كلا منهما يجب متى كان ذلك ممكنا، أن يعزز الآخر، كما حدث عندما ساعد تعزيز الحرية وحقوق الإنسان في إضعاف الاتحاد السوفياتي.
إن خبراء السياسة الخارجية المخضرمين مثلي الذين عارضوا ترشح ترامب بقوة، إنما فعلوا ذلك لأسباب متعددة، بداية باحتقاره للأعراف المستقرة في الدستور. لكننا نعتقد كذلك بأن المدرسة الترامبية في السياسة الخارجية خطيرة بسبب نزعتها القومية العدوانية، وانغماسها في الذات، واحتقارها للحلفاء.
إن مزاج ترامب، وميله إلى الإهانة والخداع ومناصرته لفكرة التقلب وعدم القدرة على التنبؤ بالأفعال، يمكن أن تجعل منه كارثة رئاسية – خاصة عند مزاولة السياسة الخارجية. كما من شأن زعمه بأنه سيرغم المكسيك على دفع تكلفة بناء سياج يفصلها عن الولايات المتحدة، ورغبته بتحويل التحالفات مع أوروبا واليابان إلى مضارب حماية عملاقة، واقتراحاته بمنع المسلمين من السفر إلى الولايات المتحدة، هذه كلها اقتراحات منافية للعقل؛ وستكون كارثية على الصعيد العملي.
تعتبر هيلاري كلينتون أفضل بكثير على مستوى السياسة الخارجية: هي تؤمن بالإجماع القديم وستتخذ مواقف متشددة بشأن الصين، وعلى نحو متزايد تجاه روسيا. وهي لا تتردد في مناصرة حقوق الإنسان كجزء مهم من سياستنا الخارجية. صحيح أنه بضغط من جناحها اليساري، تراجعت عن الشراكة عبر الأطلسي، تلك المجموعة من اتفاقات التجارة التي تدعم المصالح الأميركية عبر خلق ثقل مواز للصين، كما تدعم القيم الأميركية من خلال حماية حقوق العمال. لكنها قد تعود إلى دعم هذه الاتفاقات بمجرد توليها المنصب.
إذن لماذا لا يتم التصويت لصالحها؟ إذا كان الاختيار ببساطة بينها وبين ترامب، فأصوت لها – كما سيفعل عدد من خبراء السياسة الخارجية الآخرين من الجمهوريين. لكن معظمنا يأمل بمرشح ثالث يمكن الوثوق بشخصيته، ولا شك أن هناك فريقًا آخر سينضم لترامب وهو متردد، على أمل تخفيف ما لا يمكنهم تغييره.
لكن خبراء السياسة الخارجية لا يؤثرون على أي كتلة تصويتية وليس لهم أي وزن في الانتخابات العامة. تبين هذه الحملة أن إجماع السياسة الخارجية الذي شكل إطار عمل هذا البلد في الخارج منذ عام 1950 في خطر. ولا يختلف الجناح اليساري للحزب الديمقراطي في مستوى إيمانه بهذا الإجماع كثيرا عن ترامب. إن هذا الإجماع، مع محاولته للمصالحة بين القيم والمصالح، والحكمة في أفعاله، يحتاج إلى الجهر والمناداة به. وعلى الجمهور أن يعرف لماذا القيادة الأميركية في الخارج أساسية بالنسبة إلى ازدهارنا وحريتنا في الداخل.
اليوم هناك صعود في نسخة ترامب وأوباما لهذه الرؤية. ومهمة هؤلاء منا، الموجودين في حقل السياسة الخارجية، الجمهوريين والديمقراطيين على السواء، أن يؤكدوا أن هناك خطأ عميقًا وخطيرًا في هذه الرؤية.
* خدمة «نيويورك تايمز»