إميل أمين
كاتب مصري
TT

أوروبا.. وحدة في مهب الريح

هل بات الاتحاد الأوروبي هو «قصة الأمس» كما قالت أصوات المؤيدين لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، التي قدر لها الفوز أمس في استفتاء تاريخي ستمتد تبعاته وتداعياته على أوروبا لوقت طويل؟
لا يخفى عن الأعين تأثير الشعبوية أو القومية، وإن شئت الدقة قل «اليمينية» البريطانية التي وقفت وراء المشهد لأسباب كثيرة، منها التخوف من سيطرة دول منطقة الـ19 على مجريات اتخاذ القرار في الاتحاد الأوروبي، فضلاً على مخاوفها على سيادتها السياسية والعسكرية، ورغبتها في إعطاء البرلمانات الوطنية الحق في التجمع معًا، بهدف رفض أي تشريع أوروبي يتصادم أو يتعارض مع المصالح القومية للبلاد، بل إلى أبعد من ذلك ذهب أنصار الاستقلال إلى أن الخروج هو الخيار الأفضل للحفاظ على الديمقراطية البريطانية، وحماية الاقتصاد والحدود للمملكة المتحدة، ويرفع عن كاهلها 47 مليار دولار تمثل تكاليف عضويتها في الاتحاد.
يضرب الزلزال البريطاني عموم أوروبا التي باتت وحدتها في مهب الريح، وتأتي نتيجة الاستفتاء لتمثل شرخًا واضحًا في النسيج الاجتماعي الأوروبي، وبداية لتفتت الهياكل السياسية والأمنية التي بني عليها النظام الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة.
خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ليس بداية فقط لتدمير الاتحاد الأوروبي، بل للحضارة السياسية الغربية بأسرها؟
هذا كلام يؤكده دونالد تراسك رئيس المجلس الأوروبي المؤرخ ورئيس وزراء بولندا الأسبق.. لماذا؟
لأنه سيفتح الباب واسعًا أمام أنصار التيارات اليمينية في عموم أوروبا للمطالبة باستفتاءات مشابهة، وقد صدقت توقعات الرجل بالفعل، فما إن أعلنت النتائج النهائية للاقتراع، حتى وجدنا ماريان لوبان زعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية المعروفة بنزعاتها العنصرية، تطالب باستفتاء مماثل في فرنسا، وفي السياق ذاته دعا اليميني الهولندي المتطرف خيرت فيلدرز مواطنيه الهولنديين إلى استفتاء ينهي عضوية بلاده في الاتحاد الأوروبي.
أما عن اسكوتلندا التي صوت معظم مواطنيها للبقاء في الاتحاد الأوروبي فسيفكر من جديد في الانفصال عن بريطانيا وعدم البقاء رهينة لرغبات الإنجليز الذين صوتوا للخروج.
الوحدة الأوروبية تبدو بالفعل تعود إلى الوراء من جديد بعد حلم يوتوبي، والدليل نتائج استطلاع الرأي الذي أجرته شركة «ابسوس - موري» في مايو (أيار) الماضي وأعلنت نتائجه في التاسع منه، وفيه أشار 45 في المائة من أكثر من 6 آلاف شخص شملهم الاستطلاع في بلجيكا وألمانيا والمجر وإيطاليا وبولندا وإسبانيا والسويد، إلى رغبتهم في إجراء استفتاءات خاصة بهم، وأن الثلث سيختارون الانسحاب من الاتحاد الأوروبي إذا منحوا الفرصة، فيما تراوح حجم التصويت المحتمل بالانسحاب بين 41 في المائة و48 في المائة في فرنسا وإيطاليا على التوالي.
يضرب زلزال الاستفتاء بريطانيا فيما الارتدادات العميقة تؤثر في ألمانيا في الداخل الأوروبي بنوع خاص، كما تطال الولايات المتحدة الأميركية بشكل عام.
فيما يخص ألمانيا سيلقي الانسحاب البريطاني عليها تبعات اقتصادية ثقيلة، تتصل بالأحوال المالية المضطربة لعدد من دول القارة الأوروبية التي دون الدعم الألماني لأشهرت إفلاسها، مثل اليونان والبرتغال، وإسبانيا غير بعيدة عن المشهد، الأمر الذي يدعم الأحزاب اليمينية الألمانية مثل «حزب البديل من أجل ألمانيا»، التي تشكك في جدوى البقاء في الاتحاد، ما دام الأمر ظل على حساب رفاهية المواطن الألماني، ولهذا فإن الطلاق البريطاني - الأوروبي، إن جاز التعبير سوف يعتبر نذير شؤم بالنسبة للألمان.
أما الولايات المتحدة فتمثل نتائج الاستفتاء خسارة شخصية للرئيس أوباما الذي أعلن من قبل أن بريطانيا أقوى ما دامت بقيت عضوًا في الاتحاد، وإن برر إعلانه هذا بأنه يفعل من موقع الصديق الحريص.
غير أن البراغماتية الأميركية تتخفى وراء تصريحات أوباما، فالرجل يدرك تمام الإدراك أن الاتحاد الأوروبي داعم رئيسي للسياسات الأميركية على ضفة الأطلسي، وخروج بريطانيا من الاتحاد يعني فقدان واشنطن الشريك الأكبر والأقرب، فقد كانت لندن دائمًا وأبدًا الأداة الأميركية الضاغطة في محافل بروكسل لتمرير ما يريد ساكن البيت الأبيض من قرارات، مستفيدًا من ثقل بريطانيا في الاتحاد.
على أن هناك بعدًا خطيرًا يدركه الأميركيون في هذا الوقت «القيم»، كما يقول علماء النفس، إذ تأتي نتائج الاستفتاء في الوقت الذي يتعاظم فيه الدور الروسي آسيويًا وعالميًا، فهل يعني انفراط عقد الاتحاد الأوروبي رواج فكرة «أوراسيا» التي ينادي بها الروس، لتجمع دول آسيا مع دول أوروبا في امتداد جغرافي سياسي غير مسبوق في تاريخ البشرية؟ وإذا كان لهذا الطرح نصيب من حظ ولو على المدى البعيد، فأي خسائر جسيمة تضرب الإمبراطورية الأميركية من جرائه؟
وراء كل ما تقدم مخاوف أخرى لدى الأميركيين والأوروبيين كامنة في «الذات التاريخية»، فالانسحاب البريطاني يجعل من ألمانيا القطب الأوروبي المهيمن على القارة بأكملها، مما يعني أن تاريخ أوروبا يمكن أن يكون في طريق العودة إلى المرحلة التي سبقت الحرب العالمية الأولى، وأن ألمانيا الآرية في طريقها للعودة والأصوات داخلها في هذا المسار العنصري تتنامى.
هل الاستفتاء الأوروبي حادثة تاريخية؟ قد يكون كارثة وليس حادثة.