مشعل السديري
صحافي وكاتب سعودي ساخر، بدأ الكتابة في الصحف السعودية المحلية، ثم في صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، تتميز كتاباته بالسخرية اللاذعة، ويكتب عموداً ثابتاً في «الشرق الأوسط».
TT

أمك ثم أمك ثم أمك

قد أكون آخر من يحق له أن يتحدث عن عاطفة الأمومة، لأنه بديهيًا (فاقد الشيء لا يعطيه)، ولكن هذا لا يمنع من إحساسي العميق بهذه العاطفة الحميمة التي لولاها لـ(تفشكلت) الحياة - إن جاز التعبير.
وإن نسيت فلا يمكن أن أنسى شطر بيت الشعر البليغ، الذي وصف به (شوقي) رسول الرحمة عندما قال: (كأنك أم أو أب)، لقد قدم الأم على الأب، فليس هناك أرحم من الأم على ضناها في جميع الكائنات - أكرر جميع الكائنات.
والذي أثار شجوني في هذا الصدد هو ذلك الخبر الذي قرأته قبل أيام، وجاء فيه:
شهدت مقبرة الجفالي في محافظة الطائف أول من أمس حادثة هي الأولى من نوعها، أثرت على جميع المشيعين لامرأة، تمثلت في وفاة ابنها الكبير أثناء محاولته وضع أمه في اللحد.
وأكد عدد من المشيعين أن الابن الأكبر، وعمره 60 عامًا، بعد أن وضع أمه في اللحد بكى بشدة، لدرجة سمع صوت بكائه كل الذين كانوا بالقرب من القبر، ثم أغمي عليه فسقط داخل القبر ومات.
الواقع أن هذه الحادثة ليست هي الأولى من نوعها، فقد سبق ذلك صديق العمر بالنسبة لي، وهو المرحوم (محمد أبو بكر الغامدي)، الذي عندما بلغه نبأ وفاة والدته في القاهرة، أخذ أول طائرة وتقبل عزاءها في أول ليلة، ثم أوى إلى فراشه، ومن شدة حزنه على فقدها، وجدوه في الصباح قد فارق الحياة، ودفنوه بجوارها، وما أروعها من جيرة.
وكثيرًا ما كان - رحمه الله يحدثني عنها، وكيف أنها جعلت فناء منزلها ملجأ لعشرات القطط الضالة تطعمها وتسقيها، وجعلت من سطح منزلها مقرًا لطيور الحمام التي تنشد السلام والطمأنينة.
هذان نموذجان من الصعب أن يتكررا، وليس معنى ذلك أنني أدعو للتأسي بهما، ولكني بالمقابل أريد أن ألفت النظر لنموذجين آخرين على النقيض منهما.
الأول: رجل مدمن مخدرات قتل أمه بدم بارد قبل عدة أيام، كأنه يقتل حشرة.
والثاني: (توأم) قتلا أمهما قبل شهر، صحيح أنهما لم يكونا مدمنين على المخدرات، ولكنهما كانا مدمنين على ما هو أشد وأنكى وألعن، ألا وهو الفكر الشيطاني (الداعشي)، الذي أعطاهما الحق أن يبقرا رحم أمهما الذي حمل بهما، كأنها لم ترضعهما يومًا، ولا دثرتهما في فراشهما خوفًا عليهما من البرد، ولا رفعت كفيها يومًا تدعو لهما بالصلاح، كأن هذا هو جزاؤها بالنهاية.
والله لا أدري كيف أختم مقالي هذا!.. إنني في حاجة فعلاً إلى أن أضرب رأسي بالحائط عدة ضربات إلى أن يسيل الدم من على جبيني.