نورا الجيزاوي
* عضو الائتلاف الوطني السوري المعارض
TT

داريا وسجننا الكبير

العشرون من أغسطس (آب) 2012، تسلل عبر مهاجع وأجنحة سجن حمص المركزي نبأ أسود؛ النظام قطع الاتصالات والكهرباء عن بلدة داريا قرب دمشق ويجهز لحملة عسكرية تقودها الفرقة الرابعة.
انتهى النبأ المتداول في السجن ولم تنته حالة الهلع العامة، ولا الخاصة كذلك، فلكل منّا في داريا أحبة وقلق خاص عليهم، لا يقلّ عن الذعر العام على المدينة الثائرة التي تحولت الى رمز من رموز النضال السلمي ونال أهلها نساء ورجالا وأطفالا نصيبهم من الاعتقال والتنكيل، لكن ما لم يكن متوقعا أن يأخذ النظام الأمر إلى شفير الهاوية ويبدأ بحملة عسكرية بهذه الشراسة في هذا التوقيت؛ إذ كان المتوقع أن يكون لحمص النصيب الأكبر من المجازر حينها، من بابا عمرو إلى الحولة وصولا لحصار حمص القديمة في يونيو (حزيران) 2012.
لكن على ما يبدو أن وتيرة إجرام النظام قد ارتفعت بشكل وحشي بعد إعلان المبعوث المشترك "كوفي عنان" استقالته قبل أن ينهي مدة تكليفه، وكان ذلك في الثاني من آب، الأنباء المتقطعة عن داريا والأخبار الشحيحة.. كانت كفيلة بتحويل السجن إلى جحيم من الحزن والترقب والأسى. تحولت اتصالات المعتقلين مع أهاليهم إلى نافذة للمزيد من الأخبار –إن توفرت- و جاء الخامس والعشرون من ذات الشهر بطامّة الأنباء؛ مجزرة في داريا أعدم النظام عائلات بأكملها، مجزرة في المسجد حيث ظنّ الهاربون من القصف والإعدامات الميدانية أنه قد يكون ملاذا آمنا، لكن جحافل الجيش اقتحمته وأعدمت كل من فيه ميدانيا قبل أن تكمل حرق المنازل ومستودعات المؤن والأدوية محكمة الحصار على داريا.
كانت أجنحة السجن في حداد كما لو أن المجزرة قد حدثت هنا، كان من الصعب جدا التواصل بين الأجنحة، لكن كان يكفي نقل الخبر عبر أحد الأهالي، لنعرف أننا في جناحنا لسنا الوحيدين في هذا المأتم، فكل خطب يصيب الثورة كانت جدران السجن تطبق علينا أكثر، كنا نظن –عابثين ربما- أن وجودنا خارج السجن سيمكننا من اجتراح معجزة ما، أية معجزة تتصدى للجريمة. "في سوريا انتهى زمن المعجزات"، قالها أحد الأصدقاء من زملاء السجن في 2012. نعم انتهى ذاك الزمن، و 1373 يوما من الحصار على داريا.
في الذكرى الرابعة للمجزرة، قصف الطيران والبراميل والنابالم. لست في سجن حمص المركزي الآن، لكن.. السجن صار أكبر وأكبر مما كنت أتصور. فمنذ أربعة أعوام لم أكن أتصور أن الحرية وحدها لا تكفي لاجتراح المعجزات، لم أكن أتصور أن آفاق العالم ستكون صماء أكثر من جدران السجن.
ما تزال قضية المناطق المحاصرة من أكثر القضايا جدلية في الحالة السورية، إن كان على مستوى الوضع الميداني، أو السياسي أو الدولي، إذ لم تشهد الساحة السورية معارك لكسر الحصار –فيما عدا معركة حلب- ويرى باحثون اختلافا كبيرا ما بين تكتيكات النظام في حصاره لحلب ودير الزور وبين استراتيجية الحصار في دمشق وريفها وحمص، إذ يأخذ الحصار المطبق طابع الاستراتيجية بعيدة المدى، وحتى في تعامل النظام مع هذه المناطق التي ترافقت معها جريمة التهجير القسري والممنهج والتغيير الديمغرافي، على المدى القريب والمتوسط، أما سياسيا فلم تأخذ قضية المناطق المحاصرة حقها من وضعها في السياق الواقعي للحصار، بل كانت تقدم على مستويي خطاب المعارضة والمجتمع الدولي أنها قضية مساعدات وتوجه النداءات لإدخال المساعدات والقوافل الطبية، وطغت هذه المطالب –الإنسانية- على جوهر القضية أن الحصار وإحكامه ليس اعتباطا، بل إن المناطق المحاصرة هي مواقع استراتيجية تحريرها يصيب النظام في مقتله، وطغت المطالب الإنسانية في الخطابين السياسيين؛ السوري والدولي على المطلب الرئيس؛ كسر الحصار، بل للأسف تعامل المجتمع الدولي مع الجريمة على أنها أمر واقع وشكل مجموعة تنسيق الشؤون الإنسانية في جنيف –التي لا وجود فيها للسوريين- والتي تناقش كم حبة مسكن وكم علبة حليب وكم كيس طحين سوف تدخل الأمم المتحدة لإحدى المناطق المحاصرة بعد مماطلة النظام أشهراً لإدخال قافلة لا تكفي المحاصرين قوت يومهم أكثر من أسبوع، علاوة على ذلك فقد تم التعامل مع الأجزاء وليس مع القضية، وهذا تماما ما ينشده الأسد، إذ تتصاعد وتيرة الخطابات مرة لأجل حمص وأخرى لأجل دوما وثالثة لأجل داريا أو الزبداني، وغاب بالمطلق عن المشهد خطاب شامل يتبنى القضية ككل لا يتجزأ، ويعمل على كسر الحصار وإنهاء الجريمة، هل هناك إفلاس سياسي أكبر من أن تتشدق الدول العظمى بنجاحها بإقناع الروس بالضغط على النظام ليقبل إدخال قافلة مساعدات إلى منطقة محاصرة –طبعا لا تقييم لهذه المساعدات حتى- وهل هناك إفلاس سياسي يفوق تهليل بعض أطياف المعارضة لهذا الإنجاز؟
تمر الذكرى الرابعة لمجزرة داريا الكبرى، في الوقت الذي تعيش أربع وخمسون منطقة محاصرة هذا الواقع وتعيش داريا يومها الـ 1373 من الحصار المتزايد في إطباقه وقسوته، لتقول لنا أن المجزرة الكبرى لما تُختتم قائمة شهدائها بعد، وأن العدد ليس 750 "شهيدا"، "شهداء" المجزرة ما زالوا يرحلون واحدا تلو الآخر، المجزرة لم تطفئ نيرانها ليل السادس والعشرين من آب 2012، نيرانها مستمرة تحرق ما تبقى من شوارع داريا ومنازلها، أربع سنوات مرت ويتساءل ضمير المحاصرين، إلى متى ستستمر المجزرة؟ ويتساءل ضمير السوريين عامة.. ماذا لو تمكن المجتمع الدولي من تعويم نظام الأسد وفرضه شريكا في المرحلة الانتقالية... أي عابث يظن أن المجزرة ستنتهي؟ وأي عابث يظن أن مرتكبي المجازر وعلى رأسهم الأسد سيحاسبون؟