إميل أمين
كاتب مصري
TT

هل من حاجة لحكومة عالمية ديمقراطية؟

تدفع أحوال العالم المضطرب شرقًا وغربًا إلى أسئلة جذرية هذه الأيام عمن يسوس العالم، وكيف تمضى الأحداث، وهل من قوى خفية تحرك مقدرات الكون ودوله وشعوبه أم أن العشوائية هي الصفة التي باتت ملازمة لمسارات الأحداث؟
علامة الاستفهام بتحديد أكبر تناولت دور الولايات المتحدة الذي يتقلص يومًا تلو الآخر، ومكانة الصين التي تتعاظم دون أن يقدر لها أن تملأ الفراغات التي تشغلها واشنطن بالمطلق، وفي الوقت عينه نرى عودة روسية محمومة للعب دور أكبر على الخريطة العالمية، عطفًا على تجمعات سياسية واقتصادية تطفو وتخبو بين الفينة والأخرى، والمثير أن غالبيتها يتصادم، والشعوب هي التي تدفع الثمن.
في هذا الإطار الكوزمولوجي المضطرب خرج علينا أخيرًا المفكر الفرنسي جاك آتالي بكتابه الشائق والمثير «غدًا، من سيحكم العالم؟»، وفيه نجده مهمومًا ومحمومًا بمآلات البشرية في العقود المقبلة، ويطرح بمنظور واسع حتمية الحاجة إلى كيان عالمي يقود الخليقة بشكل صحيح، وينفذ القانون الكوني على الجميع، ويبسط عدالة مطلقة أو شبه مطلقة لإصلاح أحوال البلاد والعباد، حكومة عالمية ظاهرة، وبعيدًا عن الحكومة العالمية الخفية التي تتناولها أحاديث المؤامرات الكونية والجمعيات والجماعات السرية التي يزخر بها تاريخ الإنسانية بداية من الماسونية في القديم إلى منظمة بيلدربيرغ في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية.
هل فكرة الحكومة العالمية طرح عقلاني وآيديولوجي معاصر أم أن له جذورًا تاريخية؟
الشاهد أن كتاب آتالي قدم لنا دعوة للبحث العميق، وقد شارك الراحل الدكتور بطرس غالي الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، بدوره، في هذا النقاش مبكرًا في أوائل تسعينات القرن الماضي بكتابه عن «الحكومة العالمية»، وقد ذهب إلى أن فكرة إقامة حكومة عالمية على أساس من الحرية والتعاون والعدل ترجع كما يقال إلى عهد الفلاسفة اليونان السابقين.
هل كان للمفكرين العرب والمسلمين القدامى نصيب من هذا التنظير؟
ذلك كذلك بالفعل، وهو ما نجده عند الفيلسوف الشهير أبو النصر الفارابي (874 - 990م)، ففي كتابه «آراء أهل المدينة الفاضلة» يقول إنه «لا يمكن للإنسان أن ينال الكمال الذي لأجله جعلت له الفطرة الطبيعية، إلا باجتماع جماعات كثيرة متعاونين يقوم كل واحد منهم للآخر ببعض ما يحتاج إليه قومه».
هل يجيء التفكير في الحكومة العالمية مواكبًا لاختيار أمين عام جديد للأمم المتحدة، تلك المؤسسة التي عدّها المحدثون ترجمة واقعية لآمال جان جاك روسو وأحلامه، في عقد اجتماعي يجمع شمل البشرية من أقصاها إلى أقصاها؟
هنا لا بد أن نشير إلى ظهور محاولتين لإقامة حكومة عالمية جاءت كل منهما عقب صراع وليس لتحل محله، هاتان المحاولتان تتمثلان في «عصبة الأمم» و«منظمة الأمم المتحدة»، وقد أخفقت الأولى أمام قدوم النازية، والأخرى نتيجة وجود الحرب الباردة بداية، وتاليًا حينما أصبحت «مطية» لفكرة القطب الأميركي الواحد، المهيمن والمسيطر على العالم من مشارق الشمس إلى مغاربها، وهو إخفاق لا يزال مستمرًا، دون رؤية استشرافية لبديل أممي جديد، جامع مانع، رشيد ديمقراطي.
يجمع خبراء الدراسات الاستشرافية حول العالم على أن التاريخ لن يكرر في العقود المقبلة فكرة وجود قوة استثنائية تكون مركز الكون، وما على التخوم إلا أن تدور في فلكها، أي أنه لن يتسنى لقوة بعينها ما يجعلها على إدارة شؤون العالم، ولن توجد واحدة باستطاعتها الاضطلاع بهذه المهمة الثقيلة.
يخشى المرء من أن تكون هذه الرؤية في واقع الأمر مقدمة تلقائية لبلبلة وفوضى في أنحاء العالم، تكاد تكون ظاهرة بالفعل، وفى انزلاق غير محسوب العواقب، تقود لحرب كونية مدمرة، لا سيما أن التهديدات النووية خلف الباب رابضة، وعلى غير المصدق الرجوع إلى تصريحات رئيسة وزراء بريطانيا الجديدة، تيريزا ماي واستعدادها لاستخدام النووي، حتى لو أباد مئات الألوف من البشر.
يكاد يكون حلم حكومة ديمقراطية كوكبية في عالم مثالي ينعم فيه كل فرد بحق التنقل والتجول بحرية، حكومة بها برلمان وأحزاب وإدارة وقضاء وقوات شرطية ومصرف مركزي وعملة نقدية ونظام حماية اجتماعية، حكومة تقوم على نزع السلاح النووي والتقليدي، ومراقبة أمن الطاقة النووية، لا يكاد يكون هناك مكان على الأرض لحلم يوتوبي طهراني.
إلا أن آتالي يقترح ما هو ممكن مثل دمج مجموعة العشرين ومجلس الأمن، لتكوين كيان يشرف على صندوق النقد والبنك الدولي، وإخضاعهما لرقابة الجمعية العامة للأمم المتحدة، لتحقيق عدالة اجتماعية كونية، عوضًا عن الصراع الحادث بين الأغنياء والفقراء.
قد لا تكون أفكار المفكر الفرنسي ومن سبقوه نموذجية، لكننا في جميع الأحوال وأمام حالة صحوة القوميات، قد يكون ظهور حكومة «فوق - قومية»، للعالم بشكل نظري، بداية للتفكير في استراتيجية تقود العالم لعماره لا لدماره، وإنْ جرى التنفيذ لاحقًا وعلى مراحل، ذلك أن تأتي متأخرًا أفضل من أن لا تأتي أبدًا.