عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

أصل وصورة

فيديو في قطار أوقع زعيم المعارضة البريطانية، جيريمي كوربين، في مأزق، خصوصًا أنه يواجه منافسة على زعامة الحزب من مرشح التيار البليري، أوين سميث.
الواقعة تطرح أسئلة في مجتمعات الديمقراطيات البرلمانية، حيث الحكومة بكامل وزرائها منتخبة على مستوى الدوائر؛ أتكفي المبادئ المثالية والترويج للعدالة الاجتماعية (مطلب المثقفين الليبراليين منذ القرن الـ19) لنجاح الزعيم السياسي بلا قدرة على إقناع أكثر من نصف الدوائر الانتخابية بالتصويت لبرنامجه؟
وهل يكفي إخراج مئات الآلاف أو ملايين في مظاهرات تأييد لمشروع زعيم سياسي، إذا كان غير قادر على تطبيق السياسات لعجزه عن الوصول إلى الحكم؟
السؤال الأكبر، هل يمكن للسياسي النجاح والاحتفاظ بتأييد الرأي العام، بطرح الشعارات السياسية المثالية دون أن يتمتع بالدهاء السياسي والحنكة المطلوبين للتعامل مع صحافة حرة متنمرة كوحش مفترس، لا يمكن ترويضه بسبب استقلالها المادي والسياسي، خصوصًا أن طبيعة المجتمع والنظام السياسي لا تركز الصحافة المؤثرة في بضع صحف وشبكات بث قومية على مستوى البلاد فقط، بل في مئات من الصحف المحلية التي تزيد على 450 دائرة انتخابية، ناهيك عن صحافة المواطن أو الناخب نفسه، في وسائل التواصل الاجتماعي بديناميكيتها وقسوتها؟ باختصار، الكلمة التي ينبس بها السياسي أو الصورة التي يبثها لنفسه، أو تلتقط له بوعي أو خلسة، قد تكون استثمارًا في الصوت الانتخابي، أو قد تصبح سلاحًا يرتد إلى رصيده في بنك الأصوات.
هذا ما اكتشفه زعيم حزب العمال كوربين قبل أسبوع. كان في طريقه إلى بلدة صناعية في الشمال ليحضر مؤتمرًا كبيرًا نظمه مؤيدوه، وأعدّ كلمة عن ضرورة تأميم شركات القطارات وشركات تنظيم وإدارة الشبكة، لتعود إلى مصلحة السكة الحديدية البريطانية، كما كان الحال عليه قبل ثلاثين عامًا.
كان مع الزعيم العمالي مساعدوه من الحزب، ومخرج تلفزيوني. ظهر فيديو للمستر كوربين، الذي يطمح لأن يكون رئيس وزراء بريطانيا إذا فاز العمال بأغلبية المقاعد البرلمانية (326، أي النصف زائد واحد) في انتخابات 2020، وهو يفترش أرض عربة القطار أمام باب المرحاض. أنصاره من اليساريين؛ اليسار الناشط الغوغائي من منظمي المظاهرات والاحتجاجات والطلاب، ونصف اليسار الآخر من المثقفين الحنجوريين (نصف الحنجوريين يتمنون هزيمته وفوز منافسه سميث، لاعتقادهم أن الأخير أكثر قدرة على النجاح انتخابيًا) وزعوا الصور بالآلاف على وسائل التواصل الاجتماعي لزعيمهم يفترش أرض عربة قطار الدرجة الثانية لا الأولى.
في محاضرته في الاجتماع الحاشد، قال كوربين إن كل مقاعد القطار كانت محجوزة، وغير المحجوزة مقدمًا، كانت مزدحمة. الازدحام دليل على سوء خدمة القطارات وجشع الرأسمالية، ممثلاً في الشركة التي تضع الأرباح قبل راحة المسافرين. وقال إنه لم يسافر بالدرجة الأولى، لأنه من فقراء الشعب.
ولأن في كل عربة قطار كاميرا فيديو تسجل كل ما يحدث (وكثيرًا ما يفحصها المحققون في حالة الشكاوى أو السرقات)، فإن شركة «فيرجن» التي حصلت على امتياز تشغيل القطارات على الخط، وزعت على الصحافيين تسجيلاً لفيديوهات ثلاث عربات قطار مرّ بكل منها المستر كوربين، ورأى بعينيه كثيرًا من المقاعد الخالية غير المحجوزة، لكنه تجاهلها حتى وصل إلى العربة التي التقط فيها الفيديو، وهو يفترش الأرض بأوراق الصحف.
مما زاد الطين بلة للزعيم العمالي اصطحابه لمخرج صحافي للفيديو، وعندما واجهناه كصحافيين بوقائع الفيديو، قال إنه كان يتفقد القطار بحثًا عن مقعدين متجاورين لتجلس المدام بجانبه. وهنا سأله زميل، بنبرة متزايدة البراءة: «في مكتبك نفر من المساعدين، والمؤتمر أعلن عنه قبل ثلاثة أسابيع، فلماذا لم تحجز المقاعد مقدمًا؟»، وسأل آخر: «إذا كنت والعاملون في مكتبك تخفقون في تنظيم رحلة بالقطار وحجز مقعدين، فكيف نتوقع منك أن تدير حكومة المملكة إذا فزت في الانتخابات المقبلة؟».
آخر استطلاع للرأي أظهر أن 15 في المائة فقط يصدقون رواية المستر كوربين عن مقاعد القطار، والثلثين يصدقون شركة القطارات، والباقين لا يهتمون.
في الديمقراطية البرلمانية والصحافة المستقلة المفتوحة يحرص الساسة (تعبير «السياسي» يطلق على الرجل أو المرأة المشتغلين بالسياسة، وغايتهم هي إقناع الناخب بالتصويت لبرامجهم، سواء داخل الحزب نفسه، أو على مستوى الإدارة المحلية، أو على المستوى القومي في الانتخابات البرلمانية) على الصورة التي يقدمون بها أنفسهم.
الوزير أو رئيس الحكومة يقضي إجازته السنوية على حسابه الخاص، ولا تدفع الدولة أي تذاكر أو مصاريف فنادق. رئيس الحكومة السابق ديفيد كاميرون دارت صورته على وسائل التواصل الاجتماعي وهو مسافر على طائرة «إيزي جيت» من خطوط الطيران الاقتصادية، وليس على الخطوط البريطانية درجة أولى، أو رجال أعمال، بل بتذكرة ثمنها أقل من وجبة عشاء.
وزير الصحة السابق سيمون بيرنز (وهو ابن ناس من أسرة أرستقراطية) يمثل دائرة في مقاطعة إيسيكس على مسافة 60 ميلاً من لندن، وبدلاً من تأجير مسكن إضافي في لندن يتحمله دافعو الضرائب، كان يستيقظ في الخامسة صباحًا، ويستقل سيارة حكومية بـ«شوفير» إلى مكتبه، في رحلة تستغرق قرابة ساعتين يستغلها في مراجعة أوراقه. صحافة المعارضة اتهمته بالتبذير على الرفاهية. استغنى عن السيارة، ليستيقظ قبيل الرابعة صباحًا ويسير ثلث ساعة في الصقيع إلى محطة نائية ويستقل قطارًا، ثم قطارًا آخر مزدحمًا بالمسافرين وطبعًا درجة ثانية، يقف على قدميه حتى لندن، فلو تجرأ وجلس في الدرجة الأولى (ولديه حجة حقيبة الأوراق الرسمية) لسكبت الصحافة في وجهه تهمة «تبذير المال العام».
عندما كان كاميرون زعيمًا للمعارضة (2005 - 2010) قرر ضرب مثال مزدوج في الصحة البدنية وتوفير المال العام بقطع رحلة الأميال الستة كل صباح، من منزله إلى مجلس العموم على «البيسكليت». لكن زعيم المعارضة يتسلم يوميًا أوراقًا من المخابرات والدفاع (مثله مثل رئيس الحكومة كمستشار في المجلس الملكي «privy council») حساسة لأمن الدولة، فكان الـ«شوفير» يتبعه في السيارة التي يخصصها البرلمان لزعيم المعارضة بحقيبة الأوراق، وهذا بدوره أثار سخرية الصحافة واتهامات إهدار المال العام.
مثل حكاية جحا، عندما انتقد الناس ركوبه الحمار وولده على قدميه، فاستبدل الوضع ليتهم بفشله في تربية الولد، الذي يترك أباه يسير على قدميه، فسار الاثنان تجنبًا لانتقاد الناس فاتُهما بأنهما أغبى من حمارهما، إذ لم يركباه. لكن ما يهم السياسي صورته كأي مواطن يسافر درجة ثانية، أو بالدراجة أو سيرًا على الأقدام ويفترش الأرض في «الترسو».. حتى ولو كانت الصورة من إنتاج «الفوتوشوب».