خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

ضيافة السيارات

مما ابتدعه الإنجليز خلال الحرب العالمية الثانية من أساليب الكرم ضيافة السيارات. وتعني فتح المجال لعابر سبيل في السفر معك في سيارتك مجانا. أطلقوا على هذه الضيافة «هتش هايكنغ» سموها في القارة «أوتوستوب». ونسميها نحن بالتوصيلة. لماذا في الحرب العالمية الثانية؟
ابتدعت أساسا لمساعدة الجنود في الانتقال إلى حيث يلزمهم. كانت جزءا من المجهود الحربي. ثم لوحظ أن المدنيين أيضا يشاركون في هذا المجهود. فشملهم هذا الأسلوب. حالما ترى سيارة تسير في الاتجاه الذي تريده تشير إليها بإبهامك فيدرك السائق أنك في حاجة إلى توصيلة فيلتقطك. انتهت الحرب، ولكن هذا التقليد استمر بصفته جزءا من مفهوم الكرم والمساعدة. لجأ إليه بصورة خاصة التلاميذ، ولا سيما تلاميذ الفن. فهؤلاء التلاميذ يلزمهم زيارة المتاحف والمعابد للتفرج على ما فيها من فنون. ولكن الفنانين بصورة عامة مفلسون، ولا سيما عندما يكونون تلامذة. كنت واحدا منهم.
وبالطبع كان من الصعب على تلميذة أن تسافر بهذه الطريقة وحدها وتركب سيارة مع سائق لا تعرفه لمسافات طويلة. اعتمدت على مصاحبة زميل يسافران معا بهذا الأسلوب. واعتاد أصحاب السيارات وسائقو الشاحنات على الاطمئنان أكثر من توصيل شاب وشابة متصاحبين. وهكذا فعلت ودرت كل دول أوروبا الغربية بصحبة زميلة ألمانية. سفر مجاني وكثيرا ما تضمن أيضا أكلا وشربا مجانيا. فكثيرا ما كان أصحاب السيارات يتوقفون للاستراحة وتناول الطعام فيدعوننا للأكل معهم على حسابهم.
كان السائقون يرحبون بنا. ففي السفرات الطويلة يتعرضون للملل والنوم، وبخاصة أثناء السياقة ليلا. ولكن بوجودنا بجانبهم يتفادون ذلك بالكلام معنا. كما كانوا يستأنسون من حديثنا؛ إذ نكلمهم عن شتى الموضوعات في الفن والموسيقى والأدب. ونسمع منهم أيضا شتى الأمور التي لا نعرفها عن بلدهم. أتذكر رجلا فرنسيا عرف باهتمامنا بالفن فغير طريقه ليفرجنا على جسر حجري قديم من عهد لويس الرابع عشر. توقف ليفرجنا عليه، ثم استأنف السفر.
كثيرا ما كانت الشاحنات تحمل بضاعة غذائية كالفواكه، أو المشروبات كالنبيذ أو الجعة. فكان السواق يدعوننا لمشاركتهم وأخذ نصيبنا منها.
ماذا عن النوم؟ كانت المدن الغربية وما زالت مجهزة بمنامات بسيطة ورخيصة جدا، مخصصة للشباب Youth Hostels. وتقدم وجبات طعام أيضا في منتهى الرخص. تنفق عليها الحكومات والمحسنون لتشجيع الشباب على السفر والاطلاع. كنا نلتقي فيها بأمثالنا من شتى الدول. نحاورهم ونتبادل المعلومات والتجارب معهم. وأحيانا نسافر معهم. ترتبت عليها أحيانا صداقات ومراسلات غنية.
بيد أن لهذه الحياة أيضا متاعبها اللذيذة. كثيرا ما كان السواق ينزلوننا في أماكن نائية عندما يختلف طريقنا عن طريقهم. ولا يطمئن أصحاب السيارات من استضافة أحد في ظلمات الليل. كثيرا ما اضطررنا إلى قضاء الليلة عندئذ نياما في غابات كثيفة انتظارا للصبح. والويل إذا كانت ليلة ممطرة وقاسية البرد.
وتختلف الشعوب في ضيافة السيارات. الإنجليز أكثرهم استعدادا لها والفرنسيون أقلهم. وبعد أن كبرت وكانت لي سيارتي، أصبحت أشعر بواجب استضافة أي مسافر يصادفني في طريقي ويؤشر لي بحاجته إلى توصيلة.