د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

سوء الفهم وتحويل وجهة المفاهيم

يقول العقلاء إن الاختلاف في الرأي رحمة. وهو قول يعي مزايا الاختلاف ودوره الإيجابي في إثراء الأداء الاجتماعي العام، وتوسيع آفاق الإبداع من أجل معيش اجتماعي أكثر إشباعا لتوقعات المجتمعات وانتظاراتهم. فكل شيء يبدأ فكرة. وتكبر الفكرة بالفكرة المختلفة والمضادة لها.
ولكن هل أن ما نعيشه اليوم في بلداننا من معارك طاحنة بين النخب الحداثية أو العلمانية والأخرى الإسلامية وغيرهما من الانتماءات الآيديولوجية هي في واقع الأمر نقاشات بناءة قائمة على أرضية مفاهيمية واضحة للطرفين، ومن ثمة يمكن أن نعتبر ما يدور بينهما، إنما يندرج في سياق إدارة الاختلاف وتفكيكه إلى اختلافات صغيرة كي تسهل المعالجة؟
يبدو لي أن هناك فكرة تستحق بعض التوضيح، وهي أن فترات التأسيس المجتمعي للتعايش بين الحساسيات المختلفة لا يمكن أن تكون مرحلة هادئة وسهلة. بل إنها الفترة الأكثر خصومة وتجاذبا وتشاجرا. غير أن هذه الخصومات يجب ألا ننزع عنها مضامينها، ويتم تعويضها بتلاسن وشتائم لا علاقة لها بمفهوم الاختلاف ولا بأشكال التعبير عنه. أي أن من شروط حسن الاستثمار الاجتماعي للخصومات الفكرية والآيديولوجية بين النخب في بلداننا أن يحظى الاختلاف نفسه بجهد كبير ومركز من الترشيد.
المشكلة الرئيسة فيما هو مطروح في الفضاءات العمومية، أنه يصعب الحديث عن اختلافات رغم وجودها. ومرد هذه الصعوبة أن المعجم المتداول في هذه الخصومات قائم على سوء الفهم، وعلى استعمال خاطئ وغير مفكر فيه في فهم مفاهيم مركزية في الخلافات الحاصلة. وهو ما يعني أن الخلافات تتغذى من سوء الفهم والاستعمالات اللغوية والمفاهيمية غير الدقيقة والفضفاضة، وهو ما يحول وجهة المواضيع محل الخلاف الآيديولوجي نفسه.
إن هذه المسألة على قدر عال من الأهمية والخطورة؛ لأن المفاهيم هي التي تحدد لنا كيفية التفكير وتضمن لنا سلامة عملية إعمال العقل. فالنخب العلمانية في غالبيتها تخلط بين الإسلام والإسلام السياسي وتصر على وضع كل التيارات تحت لافتة واحدة من دون تمييز بينها. في حين أن السواد الأعظم من النخب الإسلاموية تفهم العلمانية واللائكية على أنها عدم إيمان. ومن ثمة نلحظ أن طرائق فهم مفاهيم مركزية في خطابات الخلاف الدائرة منذ انطلاق الثورات العربية إلى اليوم، تؤكد أن كيفية الإدراك الخاطئة والمنحرفة مُولدة للعنف والإقصاء، بل حتى لوقوع حروب أهلية إذا تطورت الخصومات غير الراشدة.
أيضا ما يبعث على القلق أن سوء فهم هذه المفاهيم لا يشمل فقط الحوارات المتشنجة التي تدار بشكل مقطوع؛ مما ينفي عنها صفة الحوار، بل إنه تسرب إلى الخطاب الإعلام، الذي تعامل مع الأطراف المستعملة لمفاهيم العلمانية واللائكية والفضاء العمومي وغير ذلك، تعاملا يستند إلى الثقة العمياء بالتمكن المعرفي للنخب المتصارعة؛ الشيء الذي جعل القراء والمشاهدين أنفسهم يتعرضون إلى تسويق معرفي فاسد وخاطئ.
ذلك أنه لا تكاد تخلو صحيفة أو إذاعة أو قناة تلفزيونية من هذه المصطلحات، ولكن المؤسف أن وسائل الاتصال هذه بصدد القيام بتعميم سوء الفهم والاستعمالات المفاهيمية بشكل غير دقيق.
وهنا في الحقيقة نلحظ أن الإعلام بدأ يتخلى عن وظيفته الثقافية التثقيفية، والحال أن كل الخلافات والتوترات التي يتم تغطيتها والتحاور في شأنها، إنما هي في الأصل والجوهر فكرية وثقافية وآيديولوجية بالأساس.
كان يمكن للإعلام أن يضع حدا لحالة سوء الفهم واليقظة إزاء المفاهيم الكبرى المروجة في الصراعات، وهذا يندرج في صميم ما يسميه البعض إنارة الرأي العام.
نحتاج إلى بذل جهد في مجال فكرنة الاختلاف والصراع؛ باعتبار أن تصحيح المفاهيم أولى الخطوات الرئيسة كي يتأسس الاختلاف على أرضية صحيحة، ومن ثمة يتم حصر الاختلاف ومداراته في حين لا نستطيع تحديده، والحال أن المعجم السائد بين النخب المختلفة تسوده الضبابية والانحرافات في الفهم والتفسير والتأويل.
وفي هذا السياق، لا نستطيع أن نغفل عن التأثير السلبي للناشطين السياسيين، الذين يستعملون هذه المفاهيم كيفما اتفق، ودون حذر وبثقة عالية، وهو ما يضاعف من أهمية دور القائم بالاتصال في وسائل الإعلام، حيث المطلوب منه أن يتدخل للتدقيق والتصحيح من أجل رسالة إعلامية غير منحرفة المفاهيم.
وعندما يتم تأمين هذه المشكلة ساعتها نستطيع أن نُميز بين من يخلط عشوائيا بين المفاهيم، ويُحملُها أكثر مما تطيقه حمولتها اللغوية، وبين من هو يفهم جيدا المعنى، ولكنه يرفضه ويُشكل موقفه الرافض وفق فهم دقيق ولا لبس فيه. مع العلم أن تعلل البعض بأن هذه المفاهيم خلافية، لا يشفع لهم العبث بها واستعمالها بشكل غير مسؤول معرفيا. فكل المفاهيم خلافية في نهاية الأمر ولو جزئيا؛ ذلك أن المفهوم نفسه يتطور ويعرف تعديلات وإثراء.