د. مرزوق الرويس
متخصص في الإدارة العامة
TT

الحضارة التقنية القادمة ومتطلبات ريادتها

في أواخر القرن العشرين، ومع إصرار الدول المتقدمة للوصول إلى الريادة العالمية، دخل العالم في حالة تنافس قوي في الابتكارات التقنية معتمدا على التراكمات المعرفية المتعلقة بالتقنية، وخصائص هذة الابتكارات المتمثلة في السرعة والمرونة وضعتها كأكثر المتغيرات الخارجية تأثيرا في النظام العالمي المعاصر؛ فالتنافس القوي في الوصول إلى ريادة الصناعات التقنية يتطلب مواءمتها للقيم والاحتياجات العامة في المجتمعات المدنية، وسيصل للريادة من يستطيع أن يملك تأثيرا أقوى في طبيعة تكوين هذة القيم، ولذلك فإن روتيننا اليومي هو البيئة الخصبة للمتنافسين من أجل توسيع مجال تأثيرهم، وهذا مؤشر قوي على أن الابتكارات التقنية في طريقها لتكوين نظام جديد.
وعلى الرغم من تأثيرات التقنية على الخصوصية وحدود الحريات، إلا أنها بدأت بتكوين طبقة جديدة للقيم داخل المجتمعات تُبنى أساساتها على قواعد تقنية بدأت تطغى فيها على القيم التقليدية، وبدعم من العولمة بدأت التقنية في تذويب الحدود الاجتماعية ما بين المجتمعات المختلفة سواء الغربية أو الشرقية أو ما بينهما، فالتأثير بدأ ينتقل متعديا الحدود والبيئات الجغرافية إلى أماكن ومناطق مختلفة، هذا الانتقال بعثر الاهتمامات وعقد المتطلبات مؤثرا بدوره على المبادئ الشخصية للأفراد، فأوجد صعوبة لدى البعض في معرفة المبدأ الصحيح نتيجة لاختلاط بعض القيم المحلية لمكان ما مع أخرى في مكان آخر، وأصبحت عملية تبادل وتشارك الثقافات سهله أدت إلى رفع مستوى المعرفة وازدياد التيارات الفكرية منتجة بيئة جديدة خصبة لتخصصات ذات أساسات تقنية مدعمة بالقدرات التحليلية ذات الرؤى المستقبلية.
أما من الجانب المهني، فاقتحام التقنية بدأ يضغط على أساسات التكوين للمنظمات وأساليب إداراتها، وهذا الضغط يرجع إلى قدرة التقنية في تقريب العالم المحسوس لغير المحسوس، كما أن التطور المتسارع للابتكارات التقنية وأجهزتها الذكية بدأ يجعل منها وسيلة فعالة لمعظم المنظمات لرفع كفاءتها؛ فالتنوع والسهولة اللذين تفرضهما التقنية في الخيارات جعلتها مكونا أساسيا للوصول بها إلى مستوى أعلى من الفعالية، وهذا يفسر التوجه القوي للمنظمات الحكومية منها والخاصة لتحويل تعاملاتها لتصبح إلكترونية.
والتحول في الطبيعة التركيبية للمنظمات حتما سيتطلب أسلوبا جديدا للإدارة بخلاف الأسلوب التقليدي، ستسهم الابتكارات التقنية في تشكيل طبيعة المهام والوظائف التي ستحدد نوعية الأسلوب الإداري القادم، وهذه المهام يصعب التنبؤ بها حاليا، ولكنها في الغالب ستكون من نتاج المتغيرات الحالية كالبيانات الضخمة والابتكارات التقنية بما فيها الأجهزة الذكية، كما أن الأسلوب الإداري القادم سيكون أقرب لأسلوب إدارة المشاريع التي تتطلب تحفيز الابتكارات كوسيلة قياس للأداء.
وبالتالي، فإن استقطاب العقول المتأملة والكفاءات ذات الرؤى التحليلية لبناء النموذج المستقبلي من المتغيرات المعاصرة سيسهم في توجيه الجهود واختصار طريقها، بالإضافة إلى تطوير المتخصصين في المجالات التقنية للتنفيذ، وكلاهما يشكلان العملة الأساسية لهذة الفترة، وستكون هنالك منافسة شديدة في عملية الاستقطاب هذه، لأن كل ما زاد عدد الكفاءات منهما كان الأقرب للريادة التقنية والتأثير في المجتمعات المدنية.