وليد أبي مرشد
صحافيّ وكاتب وخبير اقتصادي لبنانيّ
TT

على قدر أهل العزم

... تأتي العزائم، والموصل اليوم محكها وربما أحجيتها.
القائد الأميركي الأعلى للحملة العسكرية على الموصل أكد، في تصريح تفاؤلي، أن العملية العسكرية سوف تستغرق «بضعة أسابيع»، ربما سعى المسؤول الأميركي إلى طمأنة الرأي العام الأميركي بأن معركة الموصل مضمونة النتائج وإن طالت «بضعة أسابيع».
وربما قصد أيضًا إبلاغ مسلحي «داعش» أن أمامهم «بضعة أسابيع» للانسحاب من الموصل بالطريقة التي انسحبوا فيها من بلدة دابق السورية ومنطقتها قبل أيام معدودة.
ولكن، أي طمأنينة سيستمدها الأميركيون من تصريح القائد الأميركي إذا ما تذكروا أن احتلالهم للعاصمة العراقية، بغداد، إبان حربهم على صدام حسين، لم تستغرق أكثر من «بضعة أيام» وآنذاك كانت واشنطن تؤكد أن صدام حسين يملك رابع أقوى جيش في العالم.
هل أصبحت «دولة» الخلافة المزعومة أقوى، عسكريًا، من دولة صدام حسين في أوج نفوذها والموصل أعتى وأمنع من بغداد. أم أن الأسابيع التي يتحدث عنها القائد العسكري الأميركي هي المهلة التي يعطيها السياسيون والبنتاغون في واشنطن لـ«داعش» لانسحاب مسلحيها من الموصل على غرار ما فعلوا، قبل بضعة أيام، في بلدة دابق السورية؟
التقارير التي أوردتها وكالات الأنباء عن «فرار» القياديين «الداعشيين» من الموصل توحي بأن الحملة العسكرية تحقق أهدافها السياسية الخفية. وإذا صحت رواية دمشق عن أن قصف الطيران الأميركي لقوات النظام في دير الزور كان «خطأ مقصودًا» وأن غايته كانت الحؤول دون مهاجمة هذه القوات معقل «داعش» في المدينة، عندئذ يجوز الاستنتاج بأن معركة الموصل ليست معركة القضاء على «داعش» بقدر ما هي معركة ترحيلها إلى الشطر السوري من دولة الخلافة المزعومة.
للوهلة الأولى تبدو هذه الفرضية مستبعدة. ولكن إذا وُضعت في إطار المصلحة الأميركية - دون غيرها - تتخذ مصداقية واقعية.
أميركا تحارب في الشرق الأوسط «الإرهاب الدولي» الذي طال، ويطال دوريًا، أمنها الداخلي - أي أن حرب الولايات المتحدة على «داعش» ليست لضمان أمن الشرق الأوسط واستقراره (وموقفها من النزاع السوري أفضل دليل على أولوياتها الشرق أوسطية) بل لإبعاد شبح الإرهاب عن الداخل الأميركي.
من هذا المنظور تبدو معركة الموصل رسالة أميركية إلى «داعش» بقدر ما هي إنجاز عسكري يتمثل بتقويض أهم ركن من أركان «دولة الخلافة» وبتقليص مساحة هذه «الدولة» بنسبة ملموسة.. ولكن القضاء على دولة «داعش» أو إزالتها من الوجود لا يخدم أمن الولايات المتحدة الداخلي، إذ إنه سيدفع «داعش» إلى تبني سياسة إرهابية انتقامية قد لا يسلم الداخل الأميركي من تبعاتها. لذلك يفترض المنطق السياسي الواقعي أن لا تقهر «داعش» كليًا، ليس فقط لتجنب تصعيدها لعملياتها الإرهابية في الولايات المتحدة للغرب عامة، بل أيضًا لإرضاء الشارع العربي الذي بدأ يتوجس مما يعتبره «انحيازًا» أميركيًا للمحور الشيعي في الشرق الأوسط.
هذا ومن شأن تحجيم «دولة الخلافة» تحويلها من دولة توسعية إلى دولة منشغلة بالدفاع عما تبقى لها من مساحة جغرافية، لذلك، قد لا تجد واشنطن مانعًا من احتفاظ «داعش» بدولة خلافة «هزيلة» تكون «العنوان المعتمد» للإرهاب الدولي، أي دولة يسهل ضربها في أي وقت تتطلع فيه واشنطن إلى رد عسكري مباشر على أي عملية إرهابية محتملة في الداخل الأميركي، إضافة إلى أنها ستكون في منطقة تتجاذبها حاليًا التيارات الانفصالية والمذهبية، دولة فاصلة، جغرافيًا بين العراق «الشيعي» وسوريا الأسد «العلوية».
تحرير الموصل، مهما كانت تبعاته السياسية، سيشكل نصرًا معنويًا كبيرًا لإدارة الرئيس باراك أوباما وحربه المستمرة على الإرهاب الدولي. ولكن نقل هذه المعركة إلى الداخل السوري سيكون خدمة مكلفة - ومجانية في الوقت نفسه - لمحور روسيا - إيران - سوريا النظام، فلماذا لا تترك واشنطن لهذا المحور «تقليع شوكه بيديه»، خصوصًا أن الطابع الفظ لعمليات موسكو العسكرية يؤلب المجتمع الدولي عليها ويزيد من عزلتها الدبلوماسية.
باختصار، قد يصبح شرق سوريا، في حسابات واشنطن السياسية والاستراتيجية «جائزة ترضية» للشارع السني في العراق وفي الوقت نفسه مساهمة عملية في صياغة مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي لا يبدو أن طبخته نضجت حتى الآن في واشنطن.
يبقى أنه بالنسبة للرئيس أوباما - الحريص على تجنب التورط العسكري المباشر في الشرق الأوسط، سيكون تحرير الموصل إنجازه الثاني في حربه بالوكالة على الإرهاب الدولي بعد عملية اغتيال أسامة بن لادن في باكستان.. وهو إنجاز يحتاجه قبل انتهاء ولايته الرئاسية الثانية.