جوسلين إيليا
إعلامية وصحافية لبنانية عملت مقدمة تلفزيونية لعدة سنوات في لندن وبيروت، متخصصة في مجال السياحة.
TT

"خذ عيني وشوف فيها"

أسوأ شيء في الحياة هو أن تعوّد نظرك على رؤية المشهد ذاته، لان ما تتعود عليه سرعان ما يتحول الى روتين ممل، يضع حواسك في ثلاجة بدرجة حرارة منخفضة جداً ويجعلك تتحول الى روبوت ينظر ولكن لا يرى ما يجري حوله.
الانسان بطبعه يتعلق بالاماكن وتعنيه الجغرافيا من حيث لا يدري، هذه الفكرة راودتني عندما زرت المنطقة التي عملت فيها طيلة 12 عاماً بعد عشرة أيام من تركها، زرت تلك المنطقة الواقعة في وسط لندن والمعروفة بكونها سياحية قلما تنام، وشعرت كأنني أزورها للمرة الاولى، رأت عيني ما لم تره على مدى سنين، فبعد انتقال مقر صحيفة "الشرق الاوسط" من وسط لندن الى منطقة أقل زحمة من قلب العاصمة لم تعد زيارتي للوسط المزدحم حاجة ملحة، والمهم هو أنه اختلجني شعور غريب عندما رجعت الى المنطقة المحيطة بموقع المكاتب القديم، لم يكن شعوراً مبنياً على الاحاسيس والحنين والنوستالجيا فحسب إنما كان شيئاً من الانبهار.
وهذا الشيء له علاقة بارتباطنا بالاماكن المحيطة بنا وتعلقنا بها بسبب حالتنا النفسية وهذا ما يفسر انعجاب شخص بمدينة ما، وعدم مشاركة آخر الرأي نفسه، ففي الكثير من الاحيان نزور مدينة ولا نحبها ونذهب اليها مرة أخرى فنعشقها، فتفسيري المتواضع هو الوضع النفسي للشخص وطريقة نقل عينه الصورة الى ذاكرته لتتحول فيما بعد الى ذكرى جميلة أو مقيتة.
عبارة تتردد كثيراً على مسمعي: "خذ عيني وشوف فيها" وهذا صحيح جداً لان العين تلتقط ما يحلو لها من زوايا المكان ولكنها ليست العضو الوحيد من الجسد الذي يسجل ما يجري من حوله لان العين موصولة بالنفس وما تشعر به في لحظة ما، وهذا ما يفسر شعوري المختلف عندما زرت منطقة أعرف ثناياها عن ظهر قلب فقد عشت فيها وبين شوارعها أجمل الذكريات وأسوأها، فعندما عدت اليها كزائرة وعابرة سبيل، لم أكن أسيرة الوقت والالتزام بالعمل والدوام، وقد يكون هذا هو السبب لهذا الشعور الغريب الذي جعلني في لحظة أتحول الى سائحة في منطقة "كوفنت غاردن" مركز المسارح والحركة الدائمة.
التغيير الجيد والإيجابي جميل، ولكن الاهم هو التعبير عن الامتنان وتقدير ما لدينا وما حولنا، وأكثر ما يزعجني هو تأفف بعض الذين يعيشون في مدينة ما ويشكون من شح النشاطات فيها، فالغريب هو أن الزائر الآتي من مختلف أصقاع الارض يرى ما لم يره إبن تلك المدينة منذ أن أبصر النور فيها، وهذا الشيء دليل قاطع على أن العين تتعود على نقل الصورة دون التطلع الى ما هو مخطط بين سطورها لاكتشاف كل ما هو جديد وجميل.
لم أعرف قط أنني من الاناس الذين يتعلقون بالاماكن، ولكن عندما يتحول المكان الى مستودع ذكريات لا يكون مجرد مكان تسوره الجدران، إذ يصبح جزءاً منك وقطعة محفورة في ذاكرتك لتتعلم منها قيم الانتماء والتأقلم، تماما مثل الاندماج في مجتمع غريب أو بلد مضيف.
فالانسان ليس سوى كوكبة من الاحاسيس والشعور لا يكتمل إلا بالانتماء الى مكان ولا يشعر بالامان إلا عند درايته بما يجري حوله.
وبدأت بما هو سيئ وأختم بإيجابية وأقول : "دعوا بصركم حراً ولا تدعوه يتحول الى ماكينة لا ترى إلا ما أملي عليه وتعمي بصيرتكم".