خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

من ظرفاء السياسة الأميركية: للسخرية ألوان

نحن نعرف أن الفكاهة والسخرية تَرِد بأشكال وألوان مختلفة. كان منها ما فعله الكاتب الساخر الأميركي بنجامين فرانكلين الذي عاش في القرن الثامن عشر. وهو ما يجعله رائدًا من رواد الفكاهة الأميركية. بيد أنه اتخذ طريقًا فريدًا في أسلوبه، وكان في انتحال شخصيات وهمية لا وجود لها. هذا ما فعله بنشر سلسلة من المقالات المنتحَلَة باسم امرأة تدعى بولي بيكر. نشرتها لها صحيفة «الجورنال آد فرتايزر» عام 1747 بكل براءة. وراحت بولي بيكر هذه تصف معاناتها ومعاناة أولادها الخمسة الذين ولدتهم سفاحًا، وكيف أن واحدًا منهم استطاع أن يرتقي في الحياة ويصبح قاضيًا في الولايات المتحدة.
نالت هذه المقالات المنتحَلة شهرة كبيرة وصلت حتى القارة الأوروبية فتُرجِمت ونُشِرَت باللغة الفرنسية أيضًا. وسارع الفرنسيون إلى إطلاق لقب «الفيلسوفة بولي». كانت مقالات ملتزمة تشرح ضيم الحياة بالنسبة للمرأة التي تجد نفسها وحيدة ومعرضة للاستغلال من الرجال. بلغ من شعبية هذه المقالات أن دعا البعض إلى إقامة تمثال لهذه المرأة المعذَّبة وسعيها في تربية أولادها. كما أن دفاعها عن نفسها في المحكمة هز مشاعر القاضي لحد أن عرض عليها الزواج به!
وبينما كان الجمهور من مفكرين ومصلحين يتدارسون حياتها والدروس المترتبة عليها، صعقهم بنجامين فرانكلين بإعلانه أنه هو الذي كتب هذه المقالات وسرَّبَها للصحافة، ولم تكن هناك أي امرأة باسم بولي بيكر أو بشخصيتها. ولكن هذه القفشة من الكاتب آتت أكلها، بعد أن كشفت العيوب والمظالم الشائعة في المجتمع. وكان درسًا رائعًا في استخدام الفكاهة والدعابة في خدمة الجمهور.
ويظهر أن هذه البدعة قد طابت لهذا الكاتب الساخر؛ فما هي إلا بضع سنوات حتى عاد إليها؛ فبادر إلى تقمص شخصيات مختلفة انتحلها ليفضح فيها شرور المجتمع، ويحرك المسؤولين لإصلاح هذا أو ذاك من العيوب والنواقص. وكان من مبادراته في هذا الاتجاه أن نشر خلال حرب الاستقلال وثيقة منتحَلة ادعى أنها صدرت من الحاكم الإنجليزي إلى الحكومة البريطانية تدعي باستخدام الهنود الحمر في قطع رقاب المواطنين الأميركيين البيض.
من الواضح أن بنجامين فرانكلين كان سبّاقًا في اتخاذ هذه الخط التقدمي والإصلاحي في عهده؛ من ذلك أنه شارك في حملة تحريم الرقيق. كان يرتكب الكذب والانتحال من أجل إصلاح المجتمع، وإحلال الحقيقة محل الكذب. من فذلكاته هذه أنه نشر وثيقة أخرى ادعى أنها صدرت من ديوان سيدي محمد إبراهيم سلطان الجزائر يؤكد فيها استعباد الأوروبيين. ووضع فيها على لسان السلطان الكلمات نفسها التي تفوه بها جيمس جاكسون، عضو الكونغرس الأميركي في الدفاع عن حق استعباد الأميركيين البيض للزنوج. وعندما حاول الباحثون الحصول على أصل التقرير لم يجدوا له أي أثر، بل ولم يجدوا أي أثر لهذا السلطان في المغرب العربي. كانت كلها فبركة في خدمة الحملة لتحريم الرقيق. قفشة أخرى من قفشات هذا الكاتب البارع الذي سخَّر انتحال الشخصيات في كشف شرور المجتمع، كما يفعل أي ممثل كوميدي على المسرح.