محمد الرميحي
أستاذ الاجتماع السياسي في جامعة الكويت. مؤلف عدد من الكتب حول مجتمعات الخليج والثقافة العربية. رئيس تحرير مجلة «العربي» سابقاً، ومستشار كتب «سلسلة عالم المعرفة». شغل منصب الأمين العام لـ«المجلس الوطني للثقافة» في الكويت، وعضو عدد من اللجان الاستشارية في دولة الكويت. مساهم بنشر مقالات ودراسات في عدد من الصحف والمجلات المختصة والمحكمة.
TT

الزمان حليف مَن في سوريا؟

تسابق بعض الكتّاب والمراقبين العرب خاصة، وآخرون غيرهم، في كيل اللوم إلى المعارضة السورية الوطنية بعد «هولوكوست حلب» على أن تلك المعارضة خسرت المعركة، وأن حلب هي بداية الانهيار! وذهب بعضهم حتى إلى مشاركة بشار الأسد بإعلان «الانتصار»!
هذا الموقف بشكله العام، هو دليل في نظري على سرعة التراجع وفقد الأمل التي تتصف بهما ثقافة المهزومين، بل والنظرة الجزئية لأحداث التاريخ. وذهب البعض إلى أن من اندحر «هو التشدد والغلو» في عزف يساير أبواق النظام الأسدي. الزمن ليس حليف الأسد في سوريا، وهو لم يكن حليف أي جبار أو ديكتاتور في تاريخ البشرية المكتوب. الشعب السوري في أغلبه ليس بمتشدد ولا هو بإرهابي، بل هو شعب حضاري متسامح وقابل للتعايش بمكوناته المختلفة، بل وهو أيضًا قد رزح تحت حكم النظام الأسدي على صلفه وتحيزه إلى فئويته زمنًا حتى فاض به الكيل، ليس خوفًا، ولكن حتى يحافظ على كيان دولته.
فليس من المنطقي أن يهزم ديكتاتور شعبًا يرغب في الحرية. قد يخسر الشعب السوري معركة هنا أو معركة هناك، إلا أن مقاومته بطولية بالمعنى الحرفي للمفهوم. بطولية لأنه استمر في المقاومة كل هذه السنوات الخمس المشؤومة ومستمر، وقد قاوم النظام وكل أدواته المختلفة بطرق شتى، وقصر النظام في كل تلك السنوات عن أن يكسر عريكة الشعب السوري، مما جعل النظام أولاً يستنجد بإيران التي أرسلت جناحها العربي مع الأسف «حزب الله» من أجل نجدة النظام، ولما قصرت تلك الذراع، تدخلت إيران بكل قوتها في المعركة، ومع ذلك لم تستطع أن تزحزح عزيمة الشعب السوري، ثم جاءت إمبراطورية عجفاء، هي روسيا بكل طموحاتها وصلفها، كي تعاون في قمع شعب لا يرغب إلا في التحرر من الديكتاتورية، وعجزت أيضًا. مع كل تلك الأدوات وتلك القوى لم يستطع الجميع أن يكسر شوكة هذا الشعب العربي الذي ما زال يقاوم؛ فمن انتصر إذن؟ بل ربما زادته تلك المذابح إصرارًا على نيل حقوقه المشروعة في التحرر من القمع والديكتاتورية والسجون! الزمن حليف الشعب في سوريا، وليس حليف النظام، مهما حدث من تراجع هو في نظري مؤقت.
لم يحمل شعب سلاحه على كتفه إلا وانتصر، هكذا هزمت فيتنام كل جبروت فرنسا، ومن ثم الولايات المتحدة، لا لأن شعب فيتنام كان يملك أسلحة فتاكة، أو قدرات غير طبيعية؛ كان شعب فيتنام في الحالتين يملك الشجاعة والأمل بحياة حرة كريمة، وبذلك انتصر في نهاية الأمر، وهكذا حدث في أفغانستان؛ واجه أيضًا إمبراطورية ضخمة بعددها وعديدها، وانتصر في النهاية.
سيرة طويلة من تاريخ الشعوب تدلل لنا دون ضبابية ولا رياء على أن الشعوب تنتصر في النهاية. ما حدث في حلب وفي غيرها من مدن وقرى سوريا، من مذابح وتصفيات وتطهير مذهبي، يعني أول ما يعنيه أن هذا النظام القائم ليس له مستقبل، التاريخ ليس في جانبه، بل مضاد له في المدى المتوسط لا الطويل. لقد قام هذا النظام بإزالة مدن كاملة وقرى حصينة وقتل عشرات الآلاف من البشر، معظمهم لا حول لهم ولا قوة، ومعظمهم مسالمون من أبناء سوريا، ومعظمهم لا يرغبون إلا في أن يكونوا مواطنين أحرارًا في وطن حر. لم تعد سوريا بشار الأسد حرة حتى بالمعنى القانوني البحت، فأي قرار اليوم هو إما نابع من موسكو أو من طهران، بل وحتى من تل أبيب، لأنه تبيَّن أن بقاء النظام ضرورة إسرائيلية، كما هو إيرانية وروسية. هذا الكلام ليس عاطفيًا ولا يُقال عفوًا، بل هو حقيقة أثبتتها الوقائع على الأرض! لقد انكشف النظام السوري الذي كان يقول للبسطاء والسذج إنه «يقاوم إسرائيل»، في واقع الأمر جيشه كان مُصممًا لمقاومة الشعب السوري، فهو الذي وقف حتى الآن عاجزًا أمام تصميم شعب أعزل، واضطر إلى أن يأتي بالقاصي والداني؛ من «حزب الله» إلى مجموعات مجندة من فلاحي إيران وأفغانستان وباكستان والعراق، حتى يحاول هزيمة شعب متحضر!
الانتصار الذي حققه الأسد في حلب هو فقط «وسام» آخر، ولكن دموي على صدر نظامه وفي تاريخه الشخصي، لقد قتل ستالين عشرين مليون شخص، كما قتل ديكتاتور كمبوديا بول بوت ثلث شعبها. إنها ديكتاتوريات العصر الحجري، وعندما يشاهد العالم الدمار الذي خلفه «الهولوكوست» في حلب، سوف يعرف أنه غير مسبوق في عمقه أو تأثيره في تاريخ الإنسانية الحديث. لقد تعامل النظام مع البشر، وهم الشعب السوري، بأفدح مِن تعامُل المتوحشين مع الحيوانات الضارية. قد يتحالف الأسد مع إيران، وقد يتحالف مع موسكو وغيرها من القوى الشيطانية، إلا أنه لا يستطيع أن يتحالف مع الزمان؛ زمان الشعوب وزمان الحريات وزمان حقوق الإنسان!
حمام الدم الذي صنعه الأسد في سوريا لن تنساه أجيال حالية وقادمة، هو (أي الأسد) يفتقد حتى بعض الذكاء الذي كان لزين الدين بن علي، أو حسني مبارك.. هو يتمتع (إن صح التعبير) بغباء كل من صدام حسين والقذافي اللذين أودى بهما ذلك الغباء إلى التهلكة الشخصية، لا أعتقد أن بشار بعيد عن ذلك المصير. لقد أساء استخدام أدوات الدولة كما لم يُسئ لها أي من الأربعة السابقين، وأطلق على شعب يدعي أنه «شعبه» قطعان القتلة وأمطار القنابل السامة!
محاولات الأسد إنشاء الفرقة الخامسة من المتطوعين من بقايا الجيش السوري المشتت الذي تم إجهاده من قبل الثوار السوريين في الخمس سنوات الماضية، مع خلطة مرتزقة وفئوية جلبتها إيران من العراق وباكستان وأفغانستان، أي مجموعة ارتزاقية مبنية على قاعدة فئوية بغيضة، يعني أن النظام يشكل فرقة محاربة من ست جنسيات على الأقل، بسبب فشل جيشه في مواجهة الثورة، عدا أن سوريا الدولة قد فقدت استقلالها، سيعرف بشار الأسد أن سوريا بأرضها وسكانها ليست إرثًا لأحد، ولا حتى لآل الأسد!

آخر الكلام:
بيت من الشعر أعجبني:
قتلُ امرئٍ في غابةٍ جريمةٌ لا تُغتَفَر
وقتلُ شعبٍ آمنٍ مسألةٌ فيها نَظَر!