رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

الاستقطاب العربي والاستقطاب الدولي

تواردت الأنباء عن اجتماعٍ لدول جوار ليبيا العربية من أجل الاتفاق على حلٍ سياسي للأزمة في «بلاد الفاتح» سابقًا. والدول العربية المقصودة هي مصر والجزائر وتونس. وكلها متضررة من الفوضى الضاربة أطنابها في ليبيا المنكوبة بميليشياتها الثورية والإسلامية، التي دخل عليها «داعش» قبل سنتين. وليس واضحًا بعد ما سيكون عليه رأْي هذه الدول إذا اتفقت على الحلّ الدولي الذي يقوده اليوم الألماني كوبلر بعد تفاوُضٍ عليه في الجزائر ثم في المغرب. وقد نجم عن الحلّ الدولي مجلس رئاسي وحكومة موجودة بطرابلس. لكنّ شرق ليبيا فيما بين بنغازي وطبرق والهلال النفطي، لم يعترف بالحلّ الدولي، ولا يزال يقوده البرلمان المنتخب والممدَّد له برئاسة عقيلة صالح، ويقود جيشه (الوطني) الفريق خليفة حفتر الشهير.
إن أي جهدٍ عربي مشترك أو جماعي للتدخل في الأزمات، والتماس الحلول (العربية) لها، هو جهدٌ مشكور. وكما سبق القول؛ فإنّ بلدان الحل الليبي هي بلدانٌ متضررة بالمباشر (وبخاصة تونس ومصر) من الفوضى الليبية. إنما لنلاحظ أنه جهدٌ من دول عربية، وليس جهدًا جماعيًا متفرعًا عن الجامعة العربية. والمعروف أنّ كلَّ جهود التدخل في الأزمات في العراق وسوريا وليبيا بدأت عامي 2011 و2012 من الجامعة العربية، وأُضيفت لجانُ المعالجة والحل إلى اللجنة المختصة بالقضية الفلسطينية، وأخذت الجامعة العربية علمًا بجهود مجلس التعاون الخليجي للتدخل في الأزمة اليمنية.
إنّ كل الجهود العربية الجماعية أو المشتركة انتهت تقريبًا عام 2013، وجرى تحويل سائر الأزمات إلى مجلس الأمن. وما كان ذلك ناجمًا عن الضعف أو العجز العربي فقط؛ بل وعن الاستقطاب أو الانقسام العربي. فقد ظهرت لدى العرب إزاء الأزمات المندلعة ثلاثة معسكراتٍ، إذا صحَّ التعبير؛ المعسكر الأول أراد الاعتراف بالتغيير، ومساعدة الشعوب على الدخول في مرحلة انتقالية تتضمن إعادة الاستقرار والمساعدة في تكوين المجتمعات السياسية من جديد، والتعاون إن أمكن مع المجتمع الدولي في ذلك. والمعسكر الثاني أصرَّ على ضرورة الصمود في وجه الفوضى والإسلام السياسي الصاعد، ومحاولة ترميم الأنظمة السابقة حتى لو غاب رئيسها. أما المعسكر الثالث، إن صحّت تسميته كذلك، فاعتزل الطرفين بحجة أنه لا يملك القدرة على الانحياز لهذا الطرف أو ذاك.
إن هذا يعني أن الغياب العربي الذي نشكو منه في سائر الأزمات ما جاء أو ما ظهر مصادفةً، بل كان نتيجة الاختلاف في المواقف، تبعًا لفهم كل بلد لطبيعة المصالح في محيطه القريب أو البعيد. وقد تحدث أتباع المعسكر الثاني دائمًا عن شرور التدخل الأجنبي، سواء أكان دوليًا أو من جانب دولةٍ كبرى أو أكثر. والجزائر ومصر كان هذا موقفهما في ليبيا وسوريا.
فماذا عن الاستقطاب الدولي قبل الاستقطاب العربي وبعده؟ ظهر الاستقطاب الدولي أول ما ظهر بشأن الأزمة الليبية، فالروس اعتبروا أنهم خُدعوا بالموافقة على قرار التدخل بمجلس الأمن. ومع الوقت، تبيّن أن الرئيس بوتين يريد مشاكسة الأميركيين و«الأطلسيين» في سائر الأزمات؛ من ليبيا وسوريا وإلى القرم وأوكرانيا. وقد اختارت الولايات المتحدة التشارُك مع روسيا الاتحادية في سوريا دون ليبيا ودون العراق. وحصلت الدول الخليجية على قرارٍ من مجلس الأمن بشأن اليمن (2216)، وتدخلت عسكريًا.
لقد كانت دعاوى الجميع من القوى الإقليمية والدولية أن تدخلها يأتي للدفاع عن النفس، أو الأمن العالمي، أو لمكافحة الإرهاب. أما اليوم، فلا أحد ينكر من المتدخلين أن المقصود خلق مناطق نفوذ، والتأثير في مستقبل هذا البلد أو ذاك لجهة التركيبة السكانية، ولجهة النظام السياسي، ولجهة الهوية والانتماء، ولجهة الموقع الاستراتيجي. ما عاد هناك طرف إقليمي أو دولي يرغب في الانسحاب، ربما باستثناء أميركا وبعض الدول الأوروبية. أما إيران وروسيا وتركيا و«داعش»، فتعتقد جميعًا أو تزعم أنها باقية إلى الأبد.
إن الطريف أن الدول العربية المعادية للتدخل الأجنبي هي التي سعت وتسعى لإدخال الروس في الأزمات، بحجة معاداة تدخل الولايات المتحدة. وبالطبع، فإن الجزائر وكذلك مصر وتونس والعراق، ما قالت شيئًا ضد التدخل الروسي في سوريا، ولا ضد التدخل الإيراني. ولنلاحظ أيضًا أن الولايات المتحدة تقاتل «داعشَ» في العراق وسوريا جوًا وبرًا، بينما لا تفعل روسيا ذلك. ثم إنه لولا التدخل الإيراني ثم الروسي في سوريا، لما بقي نظام الأسد. وفي الوقت الذي تجتمع فيه الدول العربية الثلاث من أجل الحلّ في ليبيا، يمضي مسؤولو حكومة الشرق الليبي إلى موسكو طلبًا للمساعدة العسكرية ضد «الإرهاب»: فهل الإرهاب مقصور على «داعش» و«أنصار الشريعة»، أم إنه يشمل الميليشيات المصراتية وغيرها، التي يقبع في دارها المجلس الرئاسي، وحكومة الحل الدولي؟!
كل هذا الاستعراض يعني أن التدخل الخارجي (حتى الإيراني) إنما أمكن له أن يتحول إلى القاعدة وليس الاستثناء، لأن معظم دول الجامعة العربية انقسمت، ثم غادرت كل الساحات، ونادت أو سكتت عن التدخلات الإقليمية والدولية؛ إما للاحتفاظ بالأنظمة الخالدة، أو للتخلص منها. وقد اعتقد المنقسمون في كل حالةٍ أنهم بذلك يقون رؤوسهم وأنظمتهم من شرور الفوضى والتهميش.
كان الراحل الأمير سعود الفيصل قد شكا في مؤتمر القمة العربية بمدينة سرت عام 2010 مما سماه: الخواء الاستراتيجي العربي. وهو خواءٌ يستمر في التفاقم على وقع تفاقم الانقسام العربي، بين الذين يتوهمون أن تأييد التغيير يسرُّ الولايات المتحدة، والذين يتوهمون أن معارضة التغيير تسرُّ روسيا الاتحادية. أما في السنتين الأخيرتين، فقد توحد هؤلاء ظاهرًا من وراء مكافحة الإرهاب، والإسلام السياسي!
إن النتائج المفجعة للخواء أو الفراغ أو الانقسام أو العجز، تبدو بأسوأ تداعياتها وعواقبها في سوريا وفي العراق. ففي العراق يحضر الأميركيون والإيرانيون ويغيب العرب. وفي سوريا يحضر الروس والأتراك والإيرانيون ويغيب العرب. والمصريون مسرورون لأن الروس يفكرون بدعوتهم لحضور مؤتمر آستانة بكازاخستان بشأن سوريا. والأمر محيِّرٌ بالفعل؛ فهل الحضور أفضل وإن يكن هامشيًا، أم التغيب أفضل، والإصرار على بيان «جنيف - 1» ومؤتمر جنيف؟ أما الذين يرغبون في الحضور، فهم يقولون إن سوريا بلد عربي ولا ينبغي تركه. وأما الذين لا يرغبون ويصرون على الجدية وعلى عدم الاعتراف بالوقائع على الأرض، فيرددون قول الشاعر:
يريدون مني أن أُغنّي باسمهم
وأي قتيل باسم قاتله غنّى؟
إنني من أنصار الحضور العربي في ليبيا وفي سوريا بأي شكلٍ وقدر. ويا للعرب!