رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

سياسات التحول ومسالك التفجر

قال الرئيس الأميركي الجديد إنّ سياسات (المستشارة الألمانية) ميركل في قبول المهجَّرين السوريين كانت خطأً تاريخيًا. وقال في الوقت نفسه إنه سيبني الجدار العازل مع المكسيك، وستدفع الدولة المكسيكية تكلفته لاحقًا. ووجَّه المزيد من الضربات للحلف الأطلسي (أي للأوروبيين)، ومدَّ يده للقاء مع بوتين وروسيا الاتحادية. ورفع درجة غضبه من إيران ومن الاتفاق النووي معها. ورفع صوت التأييد لإسرائيل بمناسبة المؤتمر الدولي للقضية الفلسطينية في فرنسا، دون أن يكرر نيته في نقل السفارة إلى القدس. وذكر أنه سيسلك سياساتٍ أشدّ ضد «داعش». واعتبر الملاذات الآمنة في سوريا حلاً ينبغي اتّباعُه.
جمعتُ هذه «الخاطرات» للرئيس الجديد من عدة تصريحات و«تويتات» كما يقال. وهي لا تظهر اتجاهًا متَّسقًا لكنها تقصد إلى عدة أمور ذات صبغة شعبوية؛ وأولها مخالفة توجهات الرئيس أوباما وسياساته بالداخل (السياسة الصحية)، وبالخارج: العلاقة مع أوروبا، والعلاقة مع إيران، ومصادقة روسيا، والتحبب إلى إسرائيل، وإزعاج الصين، والخروج على الاتفاق مع المكسيك ودول المحيط الهادي. والأمر الثاني: إظهار أنّ سياسات أميركا الداخلية والخارجية كانت أيام كلينتون وأوباما سياسات خديعة مكلفة للشعب الأميركي: فما الحاجة لإعطاء ميزات للمكسيك وكندا، وما الحاجة للإنفاق على الأطلسي ومُعاداة روسيا، وما الحاجة إلى التسهيلات الضريبية على الشركات الأميركية ما دامت تُقيمُ فروعًا ومصالح وصناعات بالخارج وتترك العمالة الأميركية عاطلة، ودافعي الضرائب محتاجين؟ وكذلك الأمر مع العرب مثل الأوروبيين: إذا كانوا يريدون منا حمايتهم فينبغي أن يدفعوا تكلفة ذلك، وكذا الأمر مع الملاذات الآمنة في سوريا. أما إيران فقد أجرت إدارة أوباما اتفاقًا معها أعادت إليها بمقتضاه مائة وخمسين مليار دولار، فجعلتها أكثر قوةً في معاداة إسرائيل، ونشر الخراب والإرهاب في دول الجوار. والمنطق الترامبي البسيط: أيها الأميركيون لو وفّرنا مئات المليارات هذه بدلاً من خدمة الآخرين دون مقابل لكانت الأوضاع عندنا أفضل بمائة مرة. وحتى السياسات الأوبامية الصحية التي تدعي التضامن مع الفقراء؛ فإنّ تكلفتها أكبر بكثير من فائدتها، التي يمكن تحقيقها بطرائق أجدى وأقلّ تكلفة.
أما الأمر الثالث، فيتعلق برؤية العالم إذا صحَّ التعبير: كل العالم يطمع في أميركا بسبب طيبتها وكَرَمها، ونحن نُعادي ونُصادق دون مراعاة للمصالح. تعالوا نجرب الصداقة مع روسيا بدلاً من العداء والمجابهة. ولماذا هذه المراوغة مع الصين ما دامت خصمًا ظاهر العداوة؟
بالطبع؛ فإنّ هذه النقاط المتناثرة لا تشكل سياساتٍ للداخل والخارج. لكنْ لا شكّ في الاختلاف في السياسات الداخلية بعامة بين اليمين الأميركي وليبراليي الحزب الديمقراطي. وصحيح أنّ ترامب ما كان حزبيًا، لكنْ في قلب الحزب الجمهوري مجموعة يمينية قوية (مجموعة حفل الشاي)، والتي تختلف مع الديمقراطيين في كل شيء. وسياسات ترامب بالداخل باستثناء إرادته إبطال خطة أوباما للعناية الصحية، غير معروفة. والمهم أن نعرف أنّ ترامب إنما فاز لأنه حظي بشعبوية داخلية من العجائز ومن الشبان المحبطين والمهمشين أو الذين يشعرون أنهم كذلك. لكنه لا يملك القيام بحراك حقيقي داخلي لصالح الفئات التي انتخبته؛ لأن مساحات التغيير الممكنة ضيقة. وهو لن يزيد الضرائب على الأغنياء لأنه منهم. ولا يستطيع المضي في سياسات مجابهة الفقراء والأقليات لأن ذلك يثير اضطرابًا اجتماعيًا.
يعتقد ترامب إذن وبحقّ أنّ حرية الحركة متاحة له بالخارج أكثر من الداخل. والجمهور سيكون أكثر ارتياحًا، لأن ترامب يقنِعُهُ بأنّ أميركا إنْ تخلّتْ عن التزاماتها الخارجية الكثيرة؛ فإنها ستوفر مالاً كثيرًا، ولن تفقد حياة جنودها، وستكون أكثر قدرةً ومناعةً من الإرهاب ومن الاستغلال: بمنع المسلمين والمكسيكيين من الدخول إلى الولايات المتحدة أو زيادة الضغوط عليهم بشدة.
بيد أنّ ترامب لا يقدّر بحقّ ما يمكن أن يسبِّبه التخلّي عن الأصدقاء والحلفاء، والتنازل للخصوم من أجل تحويلهم إلى حلفاء. فأوباما حاول جاهدًا مصادقة روسيا الاتحادية وإيران في الشرق الأوسط ولم ينجح. بل إنّ هذا التخلّي الأميركي منذ الحقبة الثانية لبوش الابن، هو الذي شجّع إيران على الاندفاع في العراق وسوريا ولبنان. ولو كانت الولايات المتحدة حاضرة (على الأقل مع تركيا) لما حصل الاضطراب السني/ الشيعي الكبير، ولا حصل الاضطراب الكردي. ثم إنّ ما يعرضه ترامب على الروس سبق لأوباما أن عرضه وليس في سوريا فقط؛ بل وفي القرم وأوكرانيا. وقد استولى الروس على ما عرض، وأقاموا شراكات بالمنطقة على أساس إقصاء أميركا. ضرب كل من بوش وأوباما المناعة العربية، فحصل الدمار على أيدي إيران و«داعش». فماذا لو ضرب ترامب المناعة الأوروبية ماذا يحصل؟
أما الالتزامات في (نافتا) وتجاه كندا وأستراليا ونيوزيلندا، فإنّ فوائدها على الولايات المتحدة أكبر بكثير. وكذلك الأمر في تبادلات الانضباط مع الصين والهند وأوروبا الحليفة. لكننا لو تأملنا الخواطر الترامبية لوجدناها لا تختلف كثيرًا عن الجدالات التي كانت تجري بين الانعزاليين والانفتاحيين الأميركيين في القرن التاسع عشر. وحتى بعد الحرب الأولى كان هناك تيار محافظ قوي لا يريد الدخول في المشكلات الأوروبية. وعند الضرورة كانوا يلجأون لتوظيف آخرين، كما وظفوا بريطانيا في عمليات بناء الوطن الصهيوني ثم فرنسا إلى أن دخلوا هم.
إنّ التأمل القريب للخاطرات الترامبية، يشير إذن إلى أن التحولات الخارجية التي يبشّر بها ليست جديدةً تمامًا، بل هي بدأت في الفترة الثانية للرئيس بوش الابن، واستتبتْ في عهد أوباما. وترامب لا يختلف جوهريًا عن أوباما إلاّ في مسألة واحدة هي مسألة إيران. وعلى ذلك فإنّ بعض فريق أوباما لا يرى إمكان إلغاء الاتفاق النووي، بل التعاوُن مع الشركاء من أجل مكافحة برنامج الصواريخ الباليستية، وتدخلات إيران بالمنطقة. ومع ذلك فالذي شهدناه أنّ محاولات أوباما للاقتراب من إيران وروسيا، والابتعاد عن العرب وتركيا، جلبت العار للولايات المتحدة، والخراب لعدة بلدانٍ في الشرق الأوسط. فالدول الكبرى وهي تمارس فعلها السياسي أو الاستراتيجي - كما يقول بول كروغمان - ينبغي أن تتوقع ردة الفعل من جانب الخصوم أو الحلفاء مهما بلغ ضعفهم أو هامشيتهم. فلو بقيت قوة أميركية بالعراق بعد عام 2011 لما ظهر «داعش»، ولا تجرأت إيران وميليشياتها على التدخل في سوريا، ولما استشرى نشاط حزب العمال الكردستاني حتى في العراق!
لقد صارت سياسات التحول حاجة استراتيجية في نظر معظم الأميركيين. وقد بدأت منذ فترة بوش الثانية. لكنها فشلت فشلاً ذريعًا حين لم تجد لها شركاء غير حزب العمال الكردستاني. وإذا كان ترامب يقوم بمراجعة راديكالية للسياسات الداخلية؛ فإنه في السياسات الخارجية والاستراتيجيات لا يفارق الخطوط الكبرى لأوباما. وإنما الفرق أنه يصوّر الأمور باعتبارها خبطات إعلامية، وليست استراتيجيات تُرسَمُ بدقة ويُبحثُ فيها عن شركاء قادرين، ومنفذين أكفاء. ولذلك فالمنتظر أن تلقى الخاطرات - إن تحولت إلى سياسات - مخاطر كبرى، أو أن تُثير مخاطر كبرى؛ إذ كيف سيتقبلُها الحلفاء المتخلَّى عنهم، وكيف سيستقبلها الخصومُ الذين يجري الإقبال عليهم. وقديمًا قال الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيبٍ كليلةٌ
ولكنّ عين السُخْط تُبدي المساويا