خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

أيام فاتت: بين قرية وقرية

هناك منافسات ظريفة ولذيذة بين الأمم والمدن والقرى. الواحدة منها تتهم الأخرى بالبخل أو الجبن أو التخلف... وهلم جراً. نجد ذلك بين إنجلترا واسكوتلندا، وبين بغداد والموصل، وبين حمص وحماه، وبين الكاظمية وكربلاء. يصل أحيانًا إلى مرحلة من العنف، كما جرى في العراق عندما استعار أهل عانة مدفع الإفطار من الجيش ليضربوا به مدينة حديثة المجاورة.
في بريطانيا هناك مثل هذه المنافسة. يتهم الإنجليز أهل اسكوتلندا بالبخل. يروون لك شتى الحكايات والطرائف. يقولون لك عندما تزور صديقًا إنجليزيًا يفتح لك قنينة شراب، وعندما تزور اسكوتلنديًا في بيته يفتح لك الراديو!
في مدينة بغداد تسمع عن المنافسة بين صوب الرصافة وصوب الكرخ. يقول الكرخيون إن أهل الرصافة مبتلون بالتفسخ وسوء الخلق، ولكن الرصافيين يردون على ذلك، فيتهمون أهل الكرخ بالتأخر والتخلف.
وتجد مثل ذلك أيضًا بين كربلاء والكاظمية، فأهل كربلاء كانوا يتهمون الكاظميين بقلة العقل، في حين اتهمهم أهل الكاظمية بالجبن. وهناك مثل هذه المنافسة بين أهل النجف وأهل الكوفة. كانت مدينة الكوفة تفتقر إلى الكهرباء وإسالة الماء، فانتهز أحد شعرائها مجيء قائمقام جديد؛ السيد حسن جواد، ليعبر له عن شكوى المدينة من هذا النقص؛ فما إن تجمع القوم ليحتفلوا بالقائمقام الجديد حتى انطلق الشاعر الشيخ علي البازي فألقى قصيدة ترحيبية قال فيها:
شكرناك من قبل اللقاء على الذكرى
وكم من فتى أعماله توجب الشكرا
هويناك كفؤًا للعلى لا لغاية
ورب هوى يغري فيستوجب الشعرا
مضى الشيخ البازي في طرحه حتى انتقل إلى موضوع الساعة، وكان حاجة السكان للكهرباء والماء النقي، فقال:
أفي مثل عصر النور نحيا بظلمة
ومثلك فينا يملك النهي والأمرا
على النهر من شاطي الفرات بيوتنا
وأكبادنا مما نكابده حرا
فأجز لنا مشروعها واربح الثنا
فقدمًا بكم تمت لنا النعمة الكبرى
هكذا تكلم الشاعر الكوفي، وما إن سمع كلماته شاعر من النجف؛ الشيخ محمد علي اليعقوبي، الذي اعتاد ارتجال القصيد في أي مناسبة كانت، حتى وقف يخاطب القائمقام الجديد:
لا تعر أهل كوفة الجند سمعا
واترك القوم يهلكون ظماء
وما إن غص الحاضرون بالضحك والاستئناس، حتى انبرى شاعر آخر؛ الشيخ محمود الحبوبي، فشطر البيتين:
(لا تعر أهل كوفة الجند سمعًا)
خطباء جاءوك أم شعراء
طلبوا الماء بعد ما فعلوها
(فدع القوم يهلكون ظماء)
(كيف تسقي يا ابن الجواد أناسًا)
وسواهم يكابدون العناء
... وكانت أيامًا وفاتت.