هشام عبد العزيز
كاتب مصري
TT

أسطورة «صيدنايا».. بين جوستنيان وبشار الأسد

تحكي كتب التاريخ عن الإمبراطور جوستنيان (القرن السادس الميلادي) الذي ذهب في رحلة إلى القدس، وقبل أن يصل إلى بغيته استراح في منطقة جبلية تعلو عن سطح البحر بنحو 1500 متر.. في هذا المناخ الطيب خرج الإمبراطور لاقتناص المتعة والصيد، فظهرت له غزالة. طاردها.. تحكي المخيلة الشعبية أن الغزالة تحولت إلى امرأة بيضاء غضّة كأنّها برج فضّة. قال بعضهم إنها العذراء مريم. أمرته أن يبني ديرًا في المكان نفسه. استجاب الإمبراطور وحقَّقَ رغبتها.. يأتي هذا الدير في المرتبة الثانية في الأهمية بعد كنيسة القيامة في القدس بالنسبة للمسيحيين.
كانت هذه الحكاية هي الأساس وراء صبغ المنطقة كلها بكل ما تحمله من معنى، منذ عهد الإمبراطور جوستنيان وحتى الآن، بداية من اسمها: سيدانايا، أو صيدون، أو صيد دنايا.. أو «صيدنايا». مرورًا بما تكتنز به هذه المنطقة الساحرة من مقدسات مسيحية وصلت إلى 21 ديرًا و40 كنيسة، منها: دير السيدة، ودير الشيروبيم، ودير القديس توما الرسول، ودير القديس جاورجيوس، وكنيسة آجيا صوفيا، وكنيسة القديس بطرس، وكنيسة القديس يوحنا، ودير التجلّي، ومقام القديسة تقلا، ومقام القديس خريستوفورس، وكنيسة التجلّي، وكنيسة القديسة بربارة، ومقام القديس نيقولاوس، ومقام القديس أندراوس، وكنيسة القديس جاورجيوس، ومقام القديس موسى، ومقام القديس سمعان.
وقفت هذه المقدسات وراء الغالبية الغالبة لسكان صيدنايا من المسيحيين الذين يبلغ تعدادهم حسب آخر إحصاء سوري (2008) نحو 15 ألف نسمة.
هكذا استطاع جوستنيان أن يصنع من هذه المنطقة الجبلية أسطورة من نوع خاص، أسطورة تجري فيها السيدة العذراء فوق الجبال غزالةً، ثم برجًا من فضة أو نورا يملأ جبال صيدنايا بالمحبة والتسامح..
تعرضت هذه الأسطورة للتهشيم شيئًا فشيئًا، ولأنها أقوى من أن تنكسر مرة واحدة، فقد تشارك الأسدان (أب وابن) في تهشيمها حتى استحالت مأساة إنسانية تناثرت منها الشظايا والدماء فلوثت تاريخ الإنسان المعاصر مسلميه ومسيحييه، سنييه وشيعييه...
في عام 1987م استطاع حافظ الأسد أن ينتهي من بناء أكبر وأحدث السجون السورية الذي يتكون من ثلاثة طوابق ويضم كل جناح في كل طابق عشرين زنزانة جماعية، ويحتوي الطابق الأول على 100 زنزانة انفرادية. وهو سجن عسكري خصص لمخالفي حافظ الأسد السياسيين.. اسم السجن؟ «صيدنايا»، يقع تحت الجبل الكبير ويتسع لأكثر من 15 ألف سجين، أي أنه يتسع لنزلاء بعدد سكان مدينة صيدنايا مجتمعين!
لقد أضاف هذا السجن إلى التراث الشامي كثيرًا؛ ومن أهم ما أضاف: «مجزرة صيدنايا» التي ارتكبتها قوات الشرطة العسكرية في سوريا يوم السبت 5 يوليو (تموز) 2008م داخل السجن إثر احتجاج السجناء بسبب إهانة الشرطة العسكرية للقرآن الكريم.
لم يطق الأسد الابن أن يترك «أسطورة صيدنايا» دون أن يضيف لأبيه، فقد كان أبوه «أسدًا» أما هو فـ«أسد ابن أسد».. تحكي الصور التي جرى تسريبها من «مسلخ صيدنايا»، كما تصف منظمة العفو الدولية، عن مآسٍ ومخازٍ إنسانية تعز عن الوصف، ولا تدين ابن حافظ وحده بل تدين كل واحد من المليارات السبعة الذين يعيشون على وجه الأرض.. لقد لوث ابن حافظ الأسد وجه الحضارة الإنسانية بما فعله في سوريا وفي سجن صيدنايا العسكري على وجه الخصوص؛ ثلاثة عشر ألف قتيل في أربعة أعوام؟! كيف طاوعتك الأقلام على توقيع الأحكام؟ كيف طاوعك المُفتون؟ كيف طاوعك الهواء الذي تتنفسه؟!
لقد تشظت أسطورة صيدنايا التي صنعها جوستنيان، واستحالت دماء متناثرة على وجه سوريا والشام والشرق الأوسط كله، لترسم صورة مفزعة وكابوسًا رهيبًا من أنات المعذبين وطقطقة عظامهم قبل آخر آهٍ يطلقونها...
اللهم إني أبرأ إليك. ليس من ابن حافظ وحده، بل ومن كل ابن ... استلذ عذاباتنا.