رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

فقه الدين والمؤسسات الدينية والسلطات

بقدْر ما روَّعني تغيير الرئيس الأميركي الجديد لمصطلح «التطرف العنيف» أيام أوباما إلى مصطلح «الإرهاب الإسلامي»، روَّعني خبر اشتباك هيئة كبار العلماء بالأزهر مع الرئيس عبد الفتاح السيسي بشأن الطلاق الشفوي. فأنا أزهري وشدوتُ شيئًا من الفقه، وإذا كان قد صار من الضروري والشرعي تسجيل عقد الزواج لدى السلطات وعدم الاكتفاء بالعقد العُرفي لما فيه من الإخلال بحقوق المرأة، والفساد الاجتماعي، فلماذا لا يكونُ ممكنًا وشرعيًا عدم إيقاع الطلاق إلا أمام السلطات أيضًا؟!
لقد كتبتُ كثيرًا خلال السنوات الماضية عن المؤسسات الدينية، وضرورة الإصلاح فيها لكي تتمكن من القيام بالمهام الملقاة على عاتقها. وقد حمّلْتُ جزءًا من المسؤولية للسلطات التي أضعفتها بحيث فقدت كثيرًا من حجيتها وجديتها أمام الشباب. لكنْ من جهة أُخرى فإنّ المؤسسات الدينية محتاجة إلى تأهُّلٍ وتأهيل، وينبغي أن تقوم بذلك بنفسها حتى لا ترغمها الجهات السياسية والثقافية والإعلام على القيام بذلك. وهكذا فإنّ التحديات الكبرى مشتركة، ولا بد من التعاون والتضامن لكي تستمرَّ الدول والمجتمعات وسط هذا المخاض الهائل الذي نعيشُهُ نحن المسلمين أكثر من أي دينٍ أو أمة في العالم المعاصر.
إنّ الذي أراه أنّ هذه الاختلافات التي تبرز على السطح بين المؤسسات السياسية والأُخرى الدينية، لا تتصل بهذا الأمر الجزئي أو ذاك بقدْر ما تتصل بحدود السياسة وحدود الدين. وهذه مشكلة قديمة في المجال الإسلامي الديني والسياسي. فأنا أقرأ منذ أكثر من ثلاثين عامـًا العبـارة التي أوردهـا ابن قـيم الجوزيـة (751هـ) عـن الفقيـه الحنبـلي الآخر ابن عقيل (513هـ) والتي تقول: حيثما تكونُ المصلحة فَثَمَّ شرعُ الله. وقد قرأها مئات غيري وتمدَّحوا بها، وصارت جزءًا أساسيًا في الأعمال عن تطوير الفقه وأُصوله. لقد صار لدينا فقهٌ شاسعٌ اسمه: فقه المصالح والمقاصد. لكننا جميعًا غفلْنا عن عنوان الفقرات التي نقلها ابن القيم عن ابن عقيل وهو: «جوازُ عمل السلطنة بالسياسة». كانت السلطنة السلجوقية أيام ابن عقيل جديدة، وقد كسفت شمس الخلافة، فصارت مسألة الشرعية العامة للدولة مطروحة.
وقد حاول العاملون من الفقهاء في فقه الدولة الترقيع مثل الماوردي (450هـ) الذي رأى أنه يكفي لاستمرار الشرعية الاعتراف المتبادَلُ بين الخلافة والسلطنة. فعند قيام أي سلطان، يقول له الخليفة العباسي القابع في بغداد اعترافًا به: وليتُك ما وراء بابي! وما اقتنع الفقيه الشافعي الآخر الملقّب بإمام الحرمين (478هـ) بهذا الحلّ الشكلي، فأدان الماوردي وكاد يذهب إلى إعطاء الشرعية كاملة لمن يمارس السلطة عمليًا وهو السلطان. وهذا تغييرٌ راديكالي ما كانت المجتمعات قد تعودت عليه، وهو الاعتراف بشرعية كل متغلِّب. ولذلك فقد عاد ابن عقيل ومن بعده ابن تيمية إلى الأصل وهو مهماتُ السلطة، أي سلطة، وهي أمران: أداء الأمانات (= الولايات) أي إدارة الشأن العام، وإحقاق العدالة. فكلُّ مَنْ تولَّى السلطة وتولّى القيامَ على هذين الأمرين بحق فهو حاكمٌ شرعي بنصّ القرآن: «إنّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل».
ابن عقيل اعتبر هذين الأمرين أو المهمتين هما مناطُ «السياسة الشرعية»، ودعا الأُمراء والفقهاء والإداريين إلى إسباغ هذا المعنى على السياسة المُجْدية باعتبارها هي المحقِّقة للمصالح العامة.
وقد كانت «السياسة» ملعونة لدى الفقهاء من قبل، باعتبارها قاصرة على «تغليظ العقوبة» على المرتكبين من خارج القضاء! لقد قال الفقيه الحنبلي إنّ إدارة الشأن العام ليست قاصرة على ضبط الأمن والزجر بالعقوبة الشديدة. بل إنّ عملها سياسي هدفُهُ حسنُ الإدارة، وتحقيق العدالة. وعندما يحصُلُ ذلك، فلن يجادلَ أحدٌ في تحويل المرتكبين إلى القضاء.
ومن سوء الحظّ أن وجهة نظر ابن عقيل والواردة في كتابه «الفنون»، ما وصلت إلينا كاملة، بل من خلال اقتباسات ابن القيم عنه. وقد أطلعَنا ابن القيّم في كتابه: «الطرق الحكمية في السياسة الشرعية» على الوجه الآخر للمسألة، والوجْهُ الآخرُ أنّ القضاء ما كان يقومُ بمهامِّه على الوجه المرْضي، لا في العقوبات ولا في غيرها. وعدم كفاءة القضاء هي التي دفعت السياسيين للتدخل أحيانًا في أعماله. ففي نظر ابن عقيل أنه إذا تسدَّد القضاءُ وتأهَّل للعمل بالسياسة في مجاله أيضًا وعرف كل فريق حدوده؛ فإنّ شراكة جديدة وانسجامًا جديدًا بين الدولة والدين حري أن ينشأ، وتتجه الأُمور إلى الصلاح والإصلاح، لأنّ القاعدة العامة واحدة: أنّ المصلحة هي شرعُ الله، وأنّ السياسة في الدولة والقضاء هي «ما كان فعلاً يكون معه حالُ الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد». وفي السنوات الأخيرة عندما كثُر الحديث عن الحكم الصالح والرشيد، كنتُ أبتسم وأحسب أنّ المتحدثين عن ذلك ربما قرأوا ابن عقيل وابن القيم!
لماذا هذا الحديث كلّه عن هذه الدثائر القديمة؟ لأمرين اثنين: مصطلح ترمب الجديد، الدالّ على سوء حالنا، وسوء نظرة العالم إلينا، والضغوط الشديدة المتبادلة بين السلطات والمؤسسات الدينية. وعندما أذكر السلطات أقصد بها المهمومة فعلاً بمصالح الناس وعيشهم واستقرارهم، وليس سلطات التهجير والقتل. السلطات الصالحة تعاني ضغوطًا شديدة في الأمن والاقتصاد وضخامة التبعات، والحيرة في الأَولويات والضروريات بحيث صار كل ملفٍ أولوية وضرورة.
والمؤسسات الدينية الجدية مهمومة بهذه المستجدات العولمية، وبهذه المصائب الواردة على الدين والناس من كل حدبٍ وصوب. لقد تغير عيشُ الناس تغيرًا هائلاً، وصار ضروريًا ما دام العيش قد تغير أن يظهر فقه جديدٌ للدين يستطيع التلاؤم والتوجيه. وما عادت المؤسسات الدينية ولا السياسية تنفرد بترتيبات العيش وفقهه وشرعنته وتوجيهه؛ بل هناك الرأي العام والإعلام، ووسائل التواصل، والفضاء المعولَم في كل شيء.
نحن محتاجون إلى تفكيرٍ جديدٍ وإلى مراجعاتٍ قاسية وإلى تضامُنٍ لأننا على قاربٍ واحد. وقد حفظنا في الأزهر منذ الصِغَر حديث النبي (صلى الله عليه وسلم) عن السفينة ذات الطبقتين، وأنّ الذين في أسفلها كانوا إذا أرادوا الاستقاء من الماء مروا على مَنْ فوقهم، فقالوا: لو أنّا خرقْنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ مَنْ فوقنا. يقول رسول الله صلواتُ الله عليه المُبدعُ لهذا المثل: فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نَجَوا ونجوا جميعًا. المؤسسات الدينية والسلطات على سفينة (هي المجتمع) ذات طبقتين أو طبقات، والمصير واحد، والتزاحُم لا يفيد، أو يصيبنا جميعًا ما يصيب ركّاب القوارب الهاربين من بلداننا المستمتعة بالحكم الصالح: ينجو الأقلُّون ويهلك الأكثرون!
في كتابي الصادر عام 2014 بعنوان «أزمنة التغيير»، ونصفه في امتداح تجربة الأزهر، عقدت فصلاً أخيرًا عنوانه «الخوف من الدولة والخوف عليها». فمتى نخرج من هذين المأزقين بالحكم الصالح والرشيد؟