إميل أمين
كاتب مصري
TT

مسار التاريخ ومصير الديمقراطية

هل بات على حكماء العالم وفلاسفته عطفًا على مفكريه مراجعة كثير من النظريات المتعلقة بالتاريخ وتطوره وحركته؟
أكثر من مشهد يدعونا إلى التأمل والتفكر، وربما كانت كلمات العاهل البلجيكي الملك فيليب الأيام القليلة الماضية مدخلاً لهذه السطور، ذلك أنه وصف التطورات السياسية في المملكة المتحدة والولايات المتحدة بأنها محاولة «لقلب مسار التاريخ»، إذ عوضًا عن الانفتاح، يرى الناظر للمشهد تقوقعًا على الذات، وارتدادًا إلى الرحم، والعودة إلى ماتوشالح، بحسب تعبير برنارد شو.
طوال سبعة عقود ونيف كانت المملكة المتحدة وأميركا منارتين للديمقراطية والحرية، والثانية قدمت ذراعًا طويلة مباركة عبر مشروع مارشال لانتشال أوروبا من وهدتها بعد الانتصار على النازية الألمانية والفاشية الإيطالية، وعليه كيف يمكن للمرء أن يتفهم أو يستسيغ إحداث الحفر في المجتمعات الديمقراطية القائمة على ركائز من الحقيقة، والعدالة، والاحترام؟ ثم هل التاريخ ماض إلى التقارب والاجتماع أم إلى التنائي والابتعاد؟
أسئلة تربك جميع الذين حاولوا بلورة رؤية لمسار التاريخ في العقود الأخيرة، وفي المقدمة منهم فرنسيس فوكوياما، العالم والفيلسوف الأميركي صاحب الكتاب الأشهر عن «نهاية التاريخ والإنسان الأخير».
طرح فوكوياما الذي تبلور في صيف عام 1989، عبر مقالة في مجلة «ناشيونال إنترست» الأميركية، تركز حول الديمقراطية الليبرالية بقيمها عن الحرية، والفردية، والمساواة، والسيادة الشعبية، ومبادئ الليبرالية الاقتصادية، وكيف أن هذه المنظومة تشكل نهاية التطور الآيديولوجي للإنسان، وبالتالي فإن عولمة الديمقراطية الليبرالية كصيغة نهائية للحكومة البشرية هي الحل.
هل فات فوكوياما شأن جلل عبر نظريته هذه، وقدر له أن يكتشف خطأه ويقومه بالنقد الواعي لاحقًا؟
الثابت أن هناك تناقضًا داخليًا حادًا وقع فيه فوكوياما، إذ هو بشكل أو بآخر صادر حركة التاريخ ومسيرة الإنسان، من خلال تبني فكر شمولي، فالقول بالوصول إلى نقطة «أوميغا» الغاية الضرورية للتطور الإنساني عند الفيلسوف الفرنسي تيار دي شاردان، يعني أنه عمد إلى تجميد التطور الإنساني المواكب للفعل البشري، فعل الحياة ذاتها، وما قاله فوكوياما في واقع الأمر ليس بجديد، فقد نادى به من قبل مكيافيللي في رؤيته لـ«الأمة»، وفولتير أشار إليه في «نور العقل»، وتحدث عنه هيغل عبر «كمال الدولة البروسية»، وقمة التجليات السلبية، بلغت تاريخيًا زمن ألمانيا فوق الجميع، ونبوءة هتلر عن الرايخ الثالث الذي سيعيش ألف عام، وفي المقابل السوفياتي شهدنا الآيديولوجيا الماركسية وحديثها عن «اليوتوبيا الموعودة».
هل اليوم شبيه بالأمس؟
بين ظهرانينا اليوم حديث عن «أميركا أولاً» بحكم مناداة رئيسها دونالد ترمب، غير أن فوكوياما يقف له بالمرصاد... «أميركا إلى دولة فاشلة»، هكذا يقرر فوكوياما، أستاذ جونز هوبكنز المبدع، ومحبوب الأوساط الليبرالية، عبر مقال أخير له في مجلة «بوليتيكو» النافذة بين وسائل الإعلام الناطقة بالإنجليزية. يدعونا عنوان مقال فوكوياما إلى سؤال جذري: مَن يقود الآخر حول العالم كافة وفي أميركا خاصة؟
منطلق السؤال حالة الجموح التي استهل بها ترمب رئاسته، فالبعض يدعي أن «الاستبلشمنت» الأميركية أو الدولة العميقة تستطيع أن تقوم مسار الرئاسة غير المنضبطة، لكن نفرًا آخر يجادل بأن التجربة التاريخية علمتنا أن «المؤسسات تنجر حسب روح القائد وليس العكس»... هل لهذا أميركا دولة ديمقراطية فاشلة؟
يصعب الإحاطة بالمقال في هذا المسطح، غير أن قراءة معمقة له تنسف رؤيته لنهاية التاريخ، سيما إذا ارتبط المشهد بمصير الديمقراطية.
يحاجج الفيلسوف الأميركي بأن النظام السياسي الأميركي ما قبل ترمب كان «عديم الأهلية»، ويعزو ظهور ترمب إلى شلل النظام السياسي الحالي، ويخلص إلى أن أميركا بصورتها الحالية، ونظامها المتداعي، قد أصبحت رهينة بيد النخب الأوليغاركية ذات النفوذ، والمصابة بالشلل، بسبب عدم قدرتها على اتخاذ قرارات مصيرية رئيسية تنقذ الحياة الديمقراطية.
في خطابه الأخير تحدث باراك أوباما بأن العالم سيرى بعد عشرة أيام السمات الرئيسية للديمقراطية الأميركية، غير أن نقدًا روسيًا وجهه السيناتور الروسي قسطنطين كوساتشوف، رئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس الاتحاد الروسي، يستحق القراءة بجدارة...
«لقد جرى تسليم السلطة بأي شكل، إلا سلميًا، إذا لم نأخذ بالطبع العمليات الشكلية. لقد عملوا كل شيء من أجل التشكيك بكون فوز ترمب جاء نتيجة انتخابات حرة. لقد كانوا ليبراليين أكثر من كونهم ديمقراطيين».
فوكوياما إذن على حق؛ الديمقراطية الأميركية في مأزق، والليبرالية من ورائها تترنح، وعلى غير المصدق الرجوع إلى تقرير مجلس الاستخبارات القومية الأميركية الذي يتوقع تفكك النظام الليبرالي العالمي خلال السنوات المقبلة، مع ما يترتب على ذلك من آثار جيوسياسية خطيرة ومثيرة.
آخر أوراق المنتدى الاقتصادي العالمي (دافوس) تظهر جليًا كيف أن «ارتفاع الدخل وتفاوت الثروة» سيكونان في السنوات المقبلة عاملين محفزين لدول الغرب لمزيد من الانغلاق.
ما الذي يحتاجه عالمنا لضبط المسار التاريخي؟
ربما إلى ما وصفه آدم سميث بأنه المصلحة العامة، أو الخيال الذي طالب به أليكس دي توكفيل، بقدر ما أنه كذلك النزعة الإنسانية التي تكلم عنها ريتشارد رورتي الفيلسوف الأميركي.
العالم في حاجة إلى القومية الإيجابية، لا الانغلاقية الشعبوية، والتاريخ بحسب مراجعات فوكوياما اليوم ليس مجرد سجل للأحداث، بل عملية ارتقاء متواصلة للفكر البشري، ارتقاء يتحقق عبر الجسور لا من خلال إقامة الجدران.. ارتقاء يحفظ كرامة النوع البشري ويرفض تسليع الإنسان.