إميل أمين
كاتب مصري
TT

ميونيخ... ونظام ما بعد الغرب

وكأن ما جاء به وزير خارجية روسيا الاتحادية في مؤتمر ميونيخ قبل عدة أيام ضرب من ضروب التنبؤات الذاتية الصنع، فقد عملت روسيا - بوتين طويلا على الثأر التاريخي من الغرب الذي أذلها كثيرًا وأوهنها طويلا، في زمن غورباتشوف، وها هي الآن بعد أن اشتد عودها واخضرت أوراقها تسعى لنظام «ما بعد الغرب» القائم على البرغماتية والاحترام.
عرف مؤتمر ميونيخ بأهميته منذ بدايات الستينات، وقد بدأ فكرة للقاء بين عسكريي الحلف المواجه للأطماع الشيوعية، ولاحقًا تجاوزت اهتماماته هموم «الأطلسي» الذي اعتبره لافروف «مؤسسة للحرب الباردة»، أدى توسيعها إلى توتر لم يسبق له مثيل في أوروبا خلال السنوات الثلاثين الماضية.
ينفي لافروف نوايا روسيا تجاه «نسف النظام الليبرالي العالمي»، فيما يذهب فولفغانغ أيشينغر رئيس مؤتمر ميونيخ الأمني، إلى أن الغرب يكاد يأفل من تلقاء ذاته، وأن عصر ما بعد الغرب قد قرب وقوة أميركا وأوروبا تتراجع، وبدائل جديدة في الانتظار، ما يعني أن حديث لافروف لم يكن هباء منثورًا.
لحظة مفصلية يواجه فيها الغرب ذاته، ويراجع أوراقه، كان لوصول دونالد ترمب سدة البيت الأبيض فيها حظ كبير، إن لم يكن الأكبر، سيما أن نظرة الرجل لحلف الناتو الذي «عفّى عليه الزمن» حسب تعليقه، لا تختلف كثيرًا عن نظرة الروس للحلف المناوئ لـ«وارسو» تقليديًا.
التقرير الذي أعده السفير المتقاعد أيشينغر كثير الأهمية ويعد مصارحة ومكاشفة غربيتين على غرار «الغلاسنوست والبريسترويكا» الروسيتين، هذا إن أراد الغرب إعادة البناء، إن لم تكن الأزمنة قد ولت.
كان حلم النظام الدولي الليبرالي الغربي بعد الحرب العالمية الثانية إحلال عالم متميز من السلام والتطور الاقتصادي، ورفاهية الحياة، وعلمنة المجتمعات إلى درجة الجفاف الروحي، غير أن المحصلة اليوم وبعد سبعة عقود هي بيئة أمن دولي أكثر هشاشة، وبيت أبيض أميركي جديد قد يكون له دور محفز «لعالم ما بعد النظام الليبرالي» المولود عام 1945.
أصحاب تقرير ميونيخ من كبار العقليات الأمنية العربية يرون أن هنالك لاعبين غير غربيين يشاركون الآن في تشكيل الشؤون الدولية، إما بالتوازي مع أطر العمل متعددة الأطراف نفسها التي كانت حجر الأساس للنظام العالمي الليبرالي المعروف، وإما بشكل يتهدد تلك الأطر ذاتها.
يعن لنا أن نتساءل: هل يكرر التاريخ ذاته؟ ثم أين الخطأ هذه المرة؟
في حال الاتحاد السوفياتي تنادى البعض بأن الخطأ في تطبيق النظرية الماركسية، لا في أصل ومتن العقيدة الشيوعية، واليوم هل كانت الليبرالية المنفلتة هي أصل الشرور أم أن أخطاء تطبيقها التي رأيناها في إدارة باراك أوباما بإحجامها وترددها عن المشاركة الفعلية، وإتاحة الفرصة لروسيا، التي تجرأت وأقدمت عسكريًا في سوريا مثال لما نقول به؟
أيشينغر يصوغ الأمر بالقول: «الأنظمة غير الليبرالية، (في إشارة لا تخطئها العين لروسيا والصين)، تبدو ثابتة الأقدام، واثقة الخطى، فيما إرادة وقدرة الديمقراطيات الغربية على صياغة الشؤون الدولية وعلى الدفاع عن النظام الليبرالي القائم على القانون في تراجع».
يمكننا القطع بأن أمرين جرت بهما المقادير عبر العقد المنصرم كشفا ضعفًا في مقدرة النظام العالمي الجديد الذي قالت به الولايات المتحدة وبوش الأب تحديدًا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي: القتال الدائر في سوريا والعجز عن مجابهته سياسيًا ودبلوماسيًا، وأزمة أوكرانيا وضم القرم إلى روسيا من جديد...
«الحركات الشعبوية تتغذى على الفراغ في القيادة السياسية»، حقيقة مؤكدة، وفراغ القوة يغري الآخرين بملئه، وهذا ما فعلته روسيا وإيران، على الخريطة الجيوسياسية الدولية، والإقليمية.
في كلمته أكد مايك بنس نائب الرئيس الأميركي أن بلاده لن تسمح لإيران بامتلاك السلاح النووي، والحقيقة أن طهران باتت اليوم في مجابهة مثلث أميركي عتيد على قمة هرمه ترمب الذي يراها أكبر راعٍ للإرهاب في العالم، وقاعدته ستيف بانون الذي عاصر أزمة الرهائن الأميركيين في إيران كضابط في البحرية الأميركية، وضلعاه مايك بنس من جهة، وجيمس ماتيس وزير الدفاع الأميركي من جهة ثانية.
إيران اليوم تزعج أميركا وأوروبا عبر خمسة منطلقات؛ البرنامج النووي أحدها، ثم برنامج صواريخها الباليستية، وتوسعها العسكري البحري، وهجوماتها الإلكترونية على جيرانها، عطفًا على دعمها للميليشيات العسكرية مثل فيلق القدس، وغيرها في الدول المجاورة.
هل روسيا والصين تدعمان إيران كخنجر في خاصرة النظام الليبرالي العالمي بملامحه الأميركية على نحو خاص؟
أفضل ما قيل من المستشارة الألمانية خلال كلمتها ويتقاطع مع النظرة للإسلام والمسلمين، هو أن الإسلام ليس مصدرًا للإرهاب، الأمر نفسه الذي أكدته وزيرة دفاعها أورسولا فون ديرلاين عبر تحذيرها الخاص بوجوب الانتباه لئلا تتحول الحرب ضد «داعش» والإرهاب إلى جبهة ضد الإسلام والمسلمين بشكل عام، ما يحمل تحذيرًا ضمنيًا لواشنطن وساكن البيت الأبيض.
تحذيرات مؤتمر ميونيخ الأخير تواكب تقديم الساعة النووية العالمية، واحتمالات التصادم قائمة بقوة، لا سيما بين واشنطن وبكين علانية، وبين موسكو وواشنطن سرًا، رغم محاولات ترمب التقرب من روسيا - بوتين، فهناك من يربض له خلف الباب الأميركي في وضع هجومي تجاه العدو التقليدي.
وما بين الاضطراب اللوجيستي والعسكري، يبقى القلق الدوغمائي تجاه مليار ونصف المليار مسلم حول العالم، ما يفيد بأن «قوس عدم الاستقرار» لا يلف أوروبا بمفردها، بل «عالم ما بعد الغرب» برمته.