فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

سجالات القطيعة والتراث بين رضوان السيد وعلي حرب

بعد حادثة تكفير نصر حامد أبو زيد، والجلبة التي صحبتها في النصف الأول من التسعينات، استضافت جيزيل خوري، ضمن برنامجها «حوار العمر»، الدكتور نصر، وزوجته ابتهال يونس، ورضوان السيد، وتضمن البرنامج مداخلةً من علي حرب.
رؤية رضوان أن الكتاب سبب التكفير «نقد الخطاب الديني» كان بالأساس نقدًا سياسيًا، بينما علي حرب يعتبره مدخلاً للنقد الواسع الذي لا يبقي ولا يذر، وهذان الرأيان يعبران عن تمايز بين مشروعين، بل واختلاف عميق بين رؤيتين يمكن الاستئناس باستعادة بعض عناوينهما للإضاءة والتحليل.
رضوان السيد شيخ أزهري وناقد للخطاب الإسلامي من داخله بغية تطويره وتجديده، يؤكد دور الحكم الصالح والرشيد في إزالة ما علق بالتراث من أوضار أعاقت حركة المسلمين، انشغل بالأمة والجماعة والسلطة، وسياسات الإسلام المعاصر، والتفكير بالدولة في المجال الإسلامي... حارب دعاة القطيعة مع التراث، واعتبر مفكري القطائع يحاربون العروبة والإسلام، بينما حرب على النقيض تمامًا؛ أخذته الفلسفات المنبثقة الصاعدة بفرنسا، خصوصًا فلاسفة الاختلاف، منذ نيتشه وصولاً إلى دريدا وفوكو ودلوز، وقد تطوّرت رؤيته «ما بعد الحداثية» من «التأويل والحقيقة»، كتابه الذي أحال فيه بالهوامش مرارًا على رضوان السيد، وصولاً إلى «نقد النص - نقد الحقيقة - الممنوع والممتنع»، وليس انتهاءً بـ«ما بعد التفكيك»، وتأثر كثيرًا في تطبيقاته بجاك دريدا، بينما في كتابه «نحو منطق تحويلي» نعثر على انهماك بنصوص جيل دلوز، وهو يطرح الآن، كما في مقالته الأخيرة بجريدة «الحياة»، مفهوم «ما بعد الحقيقة»... اختلاف جذري، ما يجمع بينهما فقط تشابه الرؤية للنموذج اللبناني المراد، إذ كلاهما من المؤيدين لمشروع ما كان يعرف بالرابع عشر من آذار (مارس) بلبنان.
في مقالةٍ مطوَّلة نشرها علي حرب بجريدة «الحياة»: «صادق جلال العظم الأكثر تنويرًا والأقل نرجسية»، مرر بعض اختلافه مع المشروع الذي يمثله رضوان السيد، ومما كتبه: «إذا شئنا المراجعة والمحاسبة، لاستخلاص الدرس، لا مهرب من إعادة النظر فيما طرح من شعارات وبرامج. ليس هذا فحسب، بل أيضًا إعادة النظر فيما تُدار به الشعارات والقضايا والهويات من طرق وأساليب وخطط. وآية ذلك أن الشعار ليس ما نطرحه ونسعى إلى تطبيقه بحرفيته، لكي ننتهكه أو ندوس عليه، إذا لم ننجح في تحويله على نحو مثمر وبنّاء، وعلى ما تشهد التجارب المريرة والمآلات البائسة للشعارات والمشاريع... وتلك هي اللعبة والرهان: مجابهة ما يقع ويفاجئ، بخلق وقائع جديدة تسفر عن تغيير الخرائط والمعادلات وسط المشهد، وعلى المسرح، وتلك هي قضية (ما بعد الحقيقة) التي فيها يتجادلون اليوم ومنها يفزعون... فأكثرنا كان يحركه فيما يكتب ليس حب الحقيقة، بل جوع عتيق إلى الشهرة والمنصب، أو إلى الجائزة التي باتت تشكل هاجسًا لدى كثيرين من العاملين في القطاع الثقافي».
بينما في حوار أجريتُه مع الدكتور رضوان السيد نُشِر بموقع «العربية»، هاجم مشاريع «القطيعة» التي يُعدّ علي حرب من أقطابها بالمجال العربي، بل اعتبره طه عبد الرحمن من أكثر ناشري ومطبقي مفهوم «التفكيك» عربيًا، وبمعرض هجوم رضوان على أولئك، حكى مستغربًا: «قرأتُ قبل أيام كتابًا عن (مفكري القطيعة) العرب. هؤلاء الناس لا يشكون من الجهل أو سوء النية، بل من دوغمائيات بشأن التقدم وشروطه. وهم ينسبون جزءًا وازنًا من تخلفنا إلى عشعشة ذلك الموروث في عقولنا ونفوسنا. وقد كان كثير منهم مغرَمين بفوكو مفكر القطيعة، وأرادوا أن يكونوا كبارًا مثله. وقد رحّب بكتاباتهم كثيرون من شبابنا وكهولنا، لأنهم منزعجون من الأحوال السائدة في التقاليد الدينية، وفي الأنظمة التسلطية. الطريف أنه دافع عني وقتها الأستاذ الدكتور ولد أباه، وهو يعرف فوكو أكثر منهم، لأن أُطروحته للدكتوراه في الفلسفة الحديثة عن فوكو. ومع ذلك فهو لم يغترّ بقطائعه، ولم يفهمها كما فهمها المدرسيون العرب».
هذا الاختلاف بين المشروعين، رغم ما يمثله من عنصر غنى للقارئ العربي، يبرهن على ارتباك الرؤية الفكرية للخروج من الأزمات الفكرية والسياسية والدينية بمجالنا الإسلامي، بين «الاتصال والانفصال» مع التراث، على طريقة رضوان السيد، و«القطيعة» ونقد الحقيقة وتجاوز كل الموروث ونقده وفضحه وكشفه على طريقة علي حرب، تبدو مسافة كبرى بين المشروعين؛ رؤية من الداخل تكتسب النور مما هو مضيء داخل التراث، وأخرى تعتبر العالم سائلاً بثقافاته، متداخلاً بمؤثراته وتداولاته، كما هو شرح «العقل التداولي» لدى حرب.
كل المشاريع المتاحة والمتداولة والمتساجلة على الساحة تشكل عناصر ثراء وغنى، بها ترتفع الصيغة الفكرية، وتغتني المفاهيم والأساليب الحوارية، وربما تتكامل بالأثر الذي تتركه وتحفره، خصوصًا للطلاب والمتعلمين، إذ يرتفع مستوى أحكامهم حتى يقرروا الاختبار لاحقًا بين الصروح العلمية، والمدارس التحليلية، والمناهج الفلسفية، وهذه سنة العلم، إذ لا يمكن أن تلغى الفلسفات والمعارف والمناهج، ولا أن تهمش أو تقزم مهما كانت أساليب الهجوم عليها، لحسن الحظ أن وصلنا إلى هذا المستوى من التفجر العلمي العربي المفيد والمضيء والمغني للدراسات والعلوم والمعارف التي تغتني من بعضها، حتى وإن نفت ذلك، أو لم تعترف به، كما أثرت أسئلة الفلسفة المثالية على أبنجاس «الهدم الجينالوجي» لدى نيتشه.
نعيم الفكر في سجاله وآثاره، وقديمًا قال ديكارت واصفًا رحلة الخروج وقلق السؤال ومشقة المسير: «فكأني سقطت على حين غرة في ماء عميق جدًا، فراعني الأمر كثيرًا، بحيث لا أستطيع تثبيت قدميَّ في القعر، ولا العوم لإبقاء جسمي على سطح الماء».