سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

القمة: البحر من أمامكم... إليكم به

كان الفضاء العربي يمتلئ بصيحات «أذناب الاستعمار» و«عملاء الاستعمار» و«أعوان الاستعمار»، ثم نجد أن الأبطال والعملاء والأذناب مدعوون معاً إلى قمة واحدة. وكنا نقرأ في نهاية كل قمة بياناً مدبّجاً بعبارات الأخوَّة، ثم يُعلن لنا بعدها عن مؤتمرات لإطاحات، أو انقلابات، أو اغتيالات.
وكانت قمة ترفع اللاءات بالثلاثة، والتالية ترفع اللاءات عنها. وكان يفترض أن القمة فرصة سانحة لعمل جدي عربي، لكن تطغى عليها هزليات الهزال. وكان يهوي بالقمة هواة السفه، فينقذها ملوك الأدب. وكانت القمة مشهداً دورياً، يأتي ويغيب، بلا أثر إلا ألم الخفة والهزليات البائخة، وعشق الشعب العربي للرداحين، وإعجابه المَرَضي بكل من يبشره بالخراب. وقد قال «الأخطل الصغير»:
يبكي ويضحكُ لا حزناً ولا فرحاً
كعاشقٍ خط سطراً في الهوى ومحا!
وقد رفضنا أن نتوقف مرة أمام المشهد كي نرى أن المشكلة ليست كلها على المسرح، بل إن جزءاً كبيراً منها بين المصفقين، ولم نستفق بعد. لأننا لو أفقنا لشعرنا بخجل هائل من تكدس الجهل والخدر ورفض الوعي والحقيقة، ولاكتشفنا أن عدد الذين شردتهم البطولات ودفعتهم إلى الخيام والهجرات المذلة، أضعاف الذين شردتهم الصهيونية والإمبريالية والاستعمار. غير أننا ننتقل من غفوة إلى غفلة وندللها دائماً باسم تجميلي، كـ«الصحوة» و«اليقظة». لكن المساحيق لا تغير الوقائع، بل تزيدها فقاعةً وتشويهاً، وتزيدنا بؤساً وحزناً وخواء.
صمد الأردن، ليس في وجه الاستعمار، بل في وجه العداء العربي. منذ أن وصل الملك حسين إلى الحكم، لم تبقَ كلمة لم تُقل فيه. وفي اليوم التالي، كان يدعى إلى المشاركة في المهرجان أو في الحرب، أو في العناق. وكان يذهب. وكانت إسرائيل (خصوصاً شارون) تقول بـ«الخيار الأردني»، لكن العرب كانوا هم الذي يدفعون إليه.
هل تعرف ما الصورة الفاصلة؟ سوف تجيب بألا حصر لها. لكن نذكر يوم قرروا إعدام عبد الكريم قاسم بالرصاص في استوديو الإذاعة، فتطلع إلى رفيقه عبد السلام عارف يطلب منه المساعدة، فهز الأخ الرفيق عبد السلام كتفيه أن ليس في إمكانه فعل أي شيء. وبعدها ذهب هو إلى القمة.
يجب أن نتذكر مشاهد ما قبل القمة وما بعدها، لكي ندرك، ولن ندرك، لماذا وصلنا إلى هنا. مزقتنا الصراعات والنزاعات وظواهر الانحراف الوطني والقومي والإنساني. شتم وظلم وافتراء، ثم المزيد منها. وخطاب لا يدعو إلا إلى الكره والحقد والشرذمة. وتلك الطريق توصل إلى هذا المصير: البحر من أمامنا مشرّع، ومن ورائنا، أوطاننا ممنوع العودة إليها.