يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

لماذا الإرهاب الأوروبي حالة خاصة؟

تعاني الجهات الأمنية في أوروبا من ارتباك كبير في تشخيص حالة الإرهاب الذي يضرب قلب أوروبا باعتباره امتداداً للإرهاب العالمي الذي قادته «القاعدة» طوال عقدين ثم تسلمت زمامه «داعش» وحولته إلى إرهاب معولم مدفوع بميديا متوحشة وحضور لافت على مواقع التواصل الاجتماعي لا سيما «تويتر»، والأهم إرث من الخطاب المرئي والمسموع والمقروء، وهو جزء من التبسيط الذي يناسب الحملات الانتخابية التي تذكي الإسلاموفوبيا وتعزز فرص صعود اليمين، لكنها تفاقم من المشكلة على الأرض.
صحيح جداً أن العالم الإسلامي يعاني من معضلة الإرهاب على مستويات متعددة بدءاً من هشاشة التصدي لخطاب الإرهاب الفكري من قبل خطابات الفضاء الديني العام المشغولة بصراعات الشرعية فيما بينها وباقتطاع أكبر قدر من كعكة التحالف مع السلطة أو معارضتها والضغط عليها عبر الثقل الاجتماعي، إلا أن الإرهاب الذي يمسّ الدول الإسلامية هو إرهاب ممانعة للنظام وليس إرهاب قلق الهوية أو محاولة القيام بعمل كبير للفت الانتباه إلى أزمة الاندماج في الدول الأوروبية، فهناك على سبيل المثال مقاتلون خاضوا تجربة الانخراط في الأعمال الإرهابية لـ«داعش» و«القاعدة» في مناطق التوتر بسوريا والعراق واليمن والصومال من كل دول أوروبا تقريباً، لكن التركيز في استهداف الداخل الأوروبي يطال دولا بعينها لكونها مركزية في مسألة الاندماج والهويّة بسبب حجم وجود الكتل الاجتماعية لمواطنيها من أصول عربية وإسلامية والذين يعيشون في كانتونات اجتماعية مغلقة وبظروف مشابهة على مستوى الفرص والسياسات.
ولأن هذه الملفات كبيرة ومعقدة وفيها كثير من الترسبات العالقة بسبب حالة الإهمال، يتم ترحيل المشكلة لأسباب أخرى مضللة كجزء من التعامل مع ملفات الإرهاب بشكل جزئي ومؤقت وفي سياق ردود الفعل والإطار الأمني والاستخباراتي، وبسبب أيضاً تطور الإرهاب من حالة قارة مرتبطة بمناطق جغرافية في العالم إلى حالة معولمة تستهدف أي بلد في أي وقت وتجعل الدول رهن الانتظار والترقب لأي عمل أو تحرك محتمل، ومع بقاء بؤر إنتاج مسببات الإرهاب وأعذاره السياسية وأبرزها الأزمة السورية، لكن ذلك يجب ألا يمنع من دراسة الإرهاب الفردي كحالة خاصة وجديدة في السياق الأوروبي بدافع تشظيات الهويّة من أشخاص غير متدينين أو منخرطين في المنظومة «الجهادية العنفية» حتى مع وجود مظلة «داعش» التي تستوعب الجميع لأهداف دعائية وليست تنظيمية.
التركيز على قضية «واتساب» أو الرسائل المشفرة التي يستخدمها الإرهابيون أمر مهم على مستوى الوسائل والتقنيات، لكنه لا يفسر الدوافع أبداً، حيث الآليات لا تشرح الغايات والمكامن النفسية للانتحار الفردي أو العدمية العنفية التي لا يمكن معها سوى المزيد من الفهم والدرس لدوافع سلوكيات الفرد الإرهابي معزولا عن التنظيم، وهو ما يتطلب دراسة بيانات أكثر من 150 ألف هجوم إرهابي بين عامي 1970 و2015 وهو أمر تنوء بحمله دولة بعينها ويجب أن تشترك دول العالم في مكافحة هذا الوباء الجاثم على المستقبل.
مع كل عملية يتم الحديث فيها عن التقنيات وليس السلوك والدوافع تتضاعف قدرة العقل الإرهابي على الحذر في استخدام هذه التكنولوجيات للتخطيط والاستعداد للهجمات، ومن هنا فإنه من الجيد الاستفادة من الدراسات الجادة التي تحاول الوصول إلى أطر ونماذج قادرة على فهم السلوكيات الإرهابية ومنها دراسة مهمة في جامعة بينغهامتون التي اقترحت إطار التعرف على الأنماط الشبكية (نيبار) التي تسعى إلى التنبؤ بتحركات الإرهابيين عبر بناء شبكات رصد للبيانات تحاول إيجاد نظرية فهم لأنماط العمليات الإرهابية الجماعية والفردية وهو ما يسمى الاستراتيجيات التفاعلية، بمعنى ربط هجوم باريس بلندن ومقارنتهما بباقي الحوادث للإرهاب الفردي.
هذه الدراسات تؤكد نقطة غائبة عن كثير من المعالجات في ملف الإرهاب طيلة السنوات الماضية حيث تركزت الدراسات على فهم سلوك الإرهابيين الأفراد بوصفهم أشخاصاً بدل دراسة الهجمات ذاتها بوصفها أسلوب إنتاج للعمل الإرهابي.
أحد طلاب الدراسة الدكتور توتون يلخص عمق الأزمة بقوله: «إن التنبؤ بالأحداث الإرهابية هو حلم، ولكن حماية بعض المناطق باستخدام تقنية الأنماط هي حقيقة واقعة، إذا استطعنا معرفة الأنماط يمكننا تقليل المخاطر، إنه ليس عملا تنبؤياً بقدر ما إنه تفاهم بين مختلف مراكز القوى الأمنية». وبحسب عبارته التي تكشف عن عمق الأزمة بالنظرة التجزيئية للإرهاب: «عندما تحل المشكلة في بغداد، يمكنك حل المشكلة في العراق، وحينها يمكننا حل المشكلة في الشرق الأوسط، ووقتها يمكن حل المشكلة في العالم».
يجب على الأوروبيين الاعتراف بالمشكلة؛ بوجود أجيال جديدة من مواطنيها ذوي الأصول الإسلامية يعانون من قلق الهويّة وأزمة الاندماج، كما اعترف العالم الإسلامي بتجذر خطاب العنف والتطرف في مجموعات اختطفت مفهوم الإسلام المتسامح، فمن الخطأ في كل عملية إرهابية استئناف عملية استحلاب الإرهاب عبر تمرير أجندة سياسية، كما هو الحال أيضاً في بعض الأصوات العلمانية التي تحاول تمرير موقفها من التشدد الديني، وهو موقف مبدئي ومتفهم لكنه لا يفسر الصورة الكبيرة للإرهاب الذي تتضاءل فيه الدوافع الدينية والعقائدية وتتضخم فيه الشعارات التحريضية والدوافع النفسية والهويّاتية.
تراجع كثيراً التجنيد المباشر والإرهاب الجمعي الذي هو أقرب إلى التحشيد ضمن فكرة مقدسة مثل «الجهاد» وإن كان خارج الضوابط الشرعية ونحن في مرحلة جديدة على الأقل في السياق الأوروبي حيث الهويات القلقة والفرد المحبط الذي يعيش حالة النبذ.