راجح الخوري
كاتب لبناني
TT

بريطانيا: طلاق يهدد بيوتاً كثيرة؟

مساء الثلاثاء الماضي وقّعت تيريزا ماي على رسالة وجهتها إلى رئيس الاتحاد الأوروبي دونالد توسك، تبلغه فيها بأن بريطانيا ستبدأ في تنفيذ المادة 50 من معاهدة لشبونة، لتباشر بذلك عملية مغادرة الاتحاد المكون من 28 دولة، بعدما صادقت الملكة إليزابيث الثانية رسمياً على قرار البرلمان تشريع عملية الطلاق، بعد زواج استمر 44 عاماً، وشابه الكثير من التوتر والخلافات في وجهات النظر.
قبل أن يسلّم السير تيم بارو، ممثل بريطانيا في الاتحاد، الرسالة إلى توسك الذي بدوره وزّعها على الدول الأعضاء، كان رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر قد أعلن أمام البرلمان البلجيكي، أن مسألة خروج بريطانيا عملية معقدة تتطلب مفاوضات صعبة تستغرق سنوات «وأن على البريطانيين أن يعرفوا، وهم يعرفون أصلاً، أن ذلك لن يتم بأسعار مخفضة، بل ستكون باهظة جداً».
الصحف البريطانية قدمت تفسيراً موضوعياً لكلام يونكر، عندما أوضحت أنه يتعمد تذكير لندن بأن عليها أن تحترم التعهدات التي قطعتها عند الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وبالتالي ستكون الأثمان باهظة؛ لأن «فاتورة الخروج» قد تصل إلى 60 مليار يورو، وهو مبلغ يوازي التعهدات التي قطعتها بريطانيا لجهة المساهمة في الموازنة الأوروبية!
لكن القصة في النهاية ليست قصة التكاليف المادية لفاتورة الخروج، بمقدار ما هي مسألة طلاق صعب ومعقد، يمكن أن يطلق حركة طلاقات أخرى داخل البيت البريطاني، ويحض على الطلاق في دول أوروبية، منها على سبيل المثال فرنسا خصوصاً – مثلاً - إذا نجح اليمين المتطرف وأوصل مارين لوبان إلى الرئاسة.
مفاوضات الخروج ستكون فعلاً كثيرة التعقيد؛ لأنه كما يقول الخبراء الاقتصاديون ستشمل كل شيء، من الصيد إلى الزراعة، وصولاً إلى التجارة والهجرة وحركة التنقل والهجرة عبر القارة الأوروبية، وإذا كانت بريطانيا ستفقد ميزات الأفضلية التبادلية ضمن سوق هائلة فيها أكثر من 500 مليون شخص؛ ما يمكن أن يؤدي إلى بطء اقتصادي، فإن مؤيدي «بريكست» يسارعون إلى التذكير بأرقام العجز التجاري التي سجلها الاقتصاد البريطاني عام 2016، ذلك أن صادرات بريطانيا إلى دول الاتحاد الأوروبي كانت 142.7 مليار جنيه، بينما بلغت قيمة استيرادها 237.7 مليار جنيه؛ ما يرتّب عليه عجزاً بنحو 94 مليار جنيه.
وعندما تحدثت تيريزا ماي عن رغبتها في التفاوض على اتفاق تجاري جديد مع الاتحاد الأوروبي، سارعت أنجيلا ميركل إلى الرد بحزم بأن بريطانيا لن تتمكن من الدخول إلى السوق الأوروبية بعد خروجها، ما لم توافق في المقابل على «حرية كاملة وتامة لتنقّل الأفراد»، وحددت أربعة شروط لذلك، هي حرية حركة السلع، والخدمات، ورؤوس الأموال، والأشخاص، لكن هذا لن يوافق الذين قالوا نعم لـ«بريكست»؛ لهذا ردته ماي بالقول: «لن نخرج من الاتحاد الأوروبي من أجل أن نتخلى مجدداً عن التحكم بالهجرة».
لكن خروج بريطانيا من الاتحاد لن يعطي حكومة ماي مزيداً من التأثير على سياسات الهجرة التي تطبقها أوروبا، وفي هذا السياق تحديداً لن يكون لها الحق - مثلاً - في ضبط الأمن عند مدخل النفق الأوروبي في مدينة كاليه الفرنسية، حيث يتجمع آلاف المهاجرين في انتظار الفرصة للوصول إلى الشواطئ البريطانية.
ولأن موضوع الهجرة لعب دوراً مؤثراً في خلفيات قرار الذين صوّتوا لصالح «بريكست»، لم يكن مستغرباً أن يثير ديفيد ديفيز، الوزير البريطاني لشؤون الانسحاب، مسألة بقاء أو انتهاء الحقوق المتبادلة للمواطنين المقيمين لدى الطرفين، في ظل قوانين العضوية البريطانية التي ستنتهي، بمعنى أن هناك 3 ملايين و500 ألف مواطن أوروبي يقيمون في بريطانيا ومعظمهم من بولندا ورومانيا والبرتغال وليتوانيا وإسبانيا ولاتفيا، في مقابل مليون و300 ألف بريطاني في إسبانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وهولندا... فما مصير هؤلاء؟
جوناثان بورتس، خبير الخزانة الاقتصادية السابق، يقول إنه نظراً لأن بريطانيا لا تملك سجلاً للتعداد السكاني، ولأن مواطني الاتحاد الأوروبي ليس مطلوباً منهم الحصول على تأشيرات لدخول بريطانيا، فليس في الإمكان معرفة عدد هؤلاء في المملكة المتحدة، لكن ستيفن وولف المتحدث باسم حزب الاستقلال لشؤون الهجرة، يرى أنه يمكن لأي شخص ممن حصل على تأمين وطني قبل الاستفتاء أن يضمن حقه الكامل في الإقامة، لكن هذا أيضاً سيكون من الموضوعات الشائكة في مفاوضات الطلاق!
لهذا الطلاق الذي يصفه الوزير السابق وليم هيغ بأنه «الأكثر تعقيداً في التاريخ»، وجوه أخرى تتصل ربما بما هو أهم؛ ذلك أن بريطانيا تخرج من البيت الأوروبي، في حين تستعد اسكوتلندا للخروج من البيت البريطاني، وهو أمر لن يكون بعيداً أيضاً عن آيرلندا؛ لهذا إنه طلاق في بيوت كثيرة، وعلى خلفية حسابات غير مضمونة النتائج على الأقل بالنسبة إلى مستقبل المملكة المتحدة، وإذا كان يوم غد سيحمل لبريطانيا تحديات اقتصادية تتصل بتحديات الهجرة، فإنه سيحمل أيضاً تحديات حقيقية تتصل باحتمال خروج اسكوتلندا، ثم آيرلندا من المملكة المتحدة.
يوم الاثنين الماضي عشية توقيع رسالتها إلى دونالد توسك حول تفعيل قرار الخروج من الاتحاد، ذهبت ماي إلى غلاسكو، حيث اجتمعت مع رئيسة وزراء اسكوتلندا نيكولا ستيرجن محاولة تحذيرها لإقناعها بأن الوقت غير مناسب للمطالبة بالاستقلال عن بريطانيا: «لأن الوحدة أمر حاسم كي تحصل بريطانيا على اتفاق جيد للانفصال عن أوروبا»، لكن ستيرجن أبلغت هيئة الإذاعة البريطانية أن ماي لم تقدم لها أي ضمانات بأن أي سلطة ستستعيدها بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يمكن أن تنقل أيضاً إلى اسكوتلندا: «كان لدينا انطباع بأنها آتية لتقدم شيئاً يتعلّق بمنح مزيد من السلطات إلى اسكوتلندا، لكن الأمر لم يكن كذلك».
هكذا، وبينما كانت ماي توقّع الثلاثاء رسالتها إلى توسك كان البرلمان الاسكوتلندي يرفع التحدي فوراً في وجه لندن، ويوافق على السماح لستيرجن بالتقدم بطلب رسمي إلى الحكومة البريطانية لإجراء استفتاء جديد حول الانفصال عن المملكة المتحدة، وصفته ستيرجن بالقول: «يحق لنا الاختيار بين (بريكست) الذي قد يكون صعباً، وبين أن نصبح دولة مستقلة قادرة على رسم مسارها الخاص، وإقامة شراكة حقيقية والتساوي بين هذه الجزر».
اسكوتلندا كانت قد أجرت استفتاء فاشلاً عام 2014 للانفصال عن المملكة المتحدة، لكن من المتوقع أن يقرر الاستفتاء الجديد الذي تريد ستيرجن أن يجري في خلال عامين خروج اسكوتلندا من بريطانيا، والدليل أن 62% من الاسكوتلنديين كانوا قد صوّتوا ضد «بريكست» ولصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي، وهو ما شكّل زلزالاً سياسياً في حينه.
صحيفة «التلغراف» نقلت عن مصادر في حزب المحافظين قولها إن «منع إجراء استفتاء ثانٍ سيثير أفعالاً شنيعة في اسكوتلندا تزيد من الدعم الشعبي للانفصال!».