محمد الرميحي
أستاذ الاجتماع السياسي في جامعة الكويت. مؤلف عدد من الكتب حول مجتمعات الخليج والثقافة العربية. رئيس تحرير مجلة «العربي» سابقاً، ومستشار كتب «سلسلة عالم المعرفة». شغل منصب الأمين العام لـ«المجلس الوطني للثقافة» في الكويت، وعضو عدد من اللجان الاستشارية في دولة الكويت. مساهم بنشر مقالات ودراسات في عدد من الصحف والمجلات المختصة والمحكمة.
TT

الميليشيات تطقطق الأصابع للدولة!

لا أعرف ما إذا كان غيري قد شعر بالقلق وهو يرى مجموعة من المُلثمين يجوبون أحد أحياء بيروت الجنوبية في استعراض قوة، بعيداً عن المؤسسات الأمنية اللبنانية التي لا تستطيع رفع إصبع احتجاج أمام هذه القوة النابعة من الحزب، إلا أن ذلك أثار القلق عندي، وهو مظهر يفضح بوضوح الوضع الأمني اللبناني، فإن كانت مثل تلك القوى تمارس الضغوط على الدولة بطريقة غير مباشرة، إلا أن وجود ميليشيا بوليسية لا يثير فزع اللبنانيين وحدهم ولكن كل من يرغب في زيارة لبنان من السياح، عرباً أم أجانب، وهو المصدر الأهم في كثير من دخل الاقتصاد اللبناني. قيل الكثير عن تورط «حزب الله» في الحرب مع الإخوة في سوريا، انتصاراً لنظام يرى كثير من المواطنين السوريين أنه لم يعد يُمثلهم، إلا أن صيحات التعقل لم تجد لها آذاناً صاغية لدى متخذي القرار في الحزب، كون «حزب الله» موالياً في (السراء والضراء) للولي الفقيه، يأتمر بأمره! دون كثير تفكير، ويغرف من خزائنه في نفس الوقت، إن كان ذلك الأمر (التورط في الخارج) خارج النطاق اللبناني تحت تساؤل دون جواب، أما أن يكون «حزب الله» مبتعداً عن الحدود اللبنانية مع إسرائيل بقوة القانون والقرارات الدولية، ومضى على آخر اشتباك معها قرابة أحد عشر عاماً، وليس مرشحاً أن يشتبك معها في غضون ربع القرن القادم على الأقل، فإن قوة «حزب الله» في لبنان المسلحة تعتبر فعلاً لا قولاً ميليشيات تنفذ رغبات فئة لبنانية ضد فئات أخرى على الساحة اللبنانية، في هذا الجو مهما فلسفنا الفكرة العامة، لا يمكن لبلد أن يستقر، أو تفارق مواطنيه الهواجس الأمنية، ويحاول بعض الساسة اللبنانيون أن يصدقوا التكاذب فيما بينهم، أن هناك دولة لها مؤسسات مركزية، يمكن أن تحمي المواطن أو المقيم، وأن السلاح لمحاربة العدو خارج الحدود! إلا أن الحقيقة أنه لا أحد بشكل موضوعي لديه حل لمعضلة الميليشيات التابعة لإيران في المنطقة العربية التي تنخر نسيج الدولة، لكن طرح الموضوع للنقاش يستأهل التفكير فيه. ليس لبنان المهدد فقط بوجود ميليشيات تابعة للخارج وولاية الفقيه، فإن الحبل على الجرار كما يقال في المثل، هناك احتمال كبير أن تكرر التجربة في العراق، على الرغم من تدخل القوى الدولية، ما تريده أو لا تريده كل من تركيا (في الإقليم) أو الولايات المتحدة (على المستوى العالمي)، فبعد «داعش» التي أجمع العالم على ملاحقتها، لأنها ذات فكر ماضوي وتكتيكات تدميرية، ترغب في نسف ما حولها، وتهيئ السبل لتفجير نفسها من الداخل، فإن ما سوف ينتج عن ملاحقتها شيء آخر من قوى ما دون الدولة العراقية، مختلف في التسمية ومشابه للفعل، ربما الحشد الشعبي هو نواة لـ«حزب الله» العراقي، وربما يقابله مجموعات ميليشياوية متشددة من الطرف الآخر، إلا أن النتيجة واحدة، هي تغلب الميليشيات الطائفية على الدولة وأجهزتها الضبطية والعسكرية، ليس في العراق ولبنان، ولكن السيناريو مؤهل لأن ينتقل إلى اليمن، فإن نهاية الحرب هناك ليست واضحة، إلا أن الأكثر احتمالاً أن المُخطط في طهران يرغب بشدة في أن يكرر تجربة «حزب الله» في لبنان من جديد في اليمن، هي تجربة ذات تكلفة منخفضة لسببين؛ أن ذاك المخطط غير معني كثيراً بعدد الضحايا من العرب الذين يسقطون في المعارك (كما هي تجربة «حزب الله» في سوريا) وأيضاً هو يبيع الوهم المخلوط بأفكار لها علاقة بالخرافة أكثر مما لها بالواقع تسري في عقول المنزوعة مناعتهم. سوريا ليست بعيدة عن تقاسم مثل ذلك السيناريو، وهو نشوء ميليشيات، والدليل العقلي على ذلك التوجه في سوريا يصافح وجه العالم كل يوم، فهناك عمل قائم على قدم وساق في تهجير (طائفي) من مناطق إلى مناطق أخرى، تمهيداً لجعل بعض المناطق مخصصة إلى، أو مشتملة على لون واحد من الطيف السوري، ليسهل بعد ذلك تجنيده (مرة أخرى بتكلفة منخفضة) للعمل كرأس حربة لتعطيل أي ظهور لدولة سورية مدنية حديثة في المستقبل. وليس بعيداً عن ذلك ما يحدث في فلسطين، فهناك أيضاً انقسام ميليشياوي، هذه المرة في حدود تباعد الجغرافيا بين غزة والقطاع.
ما نشاهده أمامنا في الساحة العربية المشرقية على الأقل، هو توجه واضح ومستمر ومتعاظم تجاه تضخيم دور الهويات الفرعية، على حساب الهوية الوطنية الشاملة، فإن لم تكن تحت انقسام طائفي (وهو مهيأ في عدد من البلدان العربية غير ما ذكرت في السابق) فهو محتمل على أساس قبلي ومناطقي (ليبيا وسوريا مثالاً، ولكنهما ليسا المثال الأوحد).
الصراع إذن في هذه المنطقة يتحول من البيني للدول، إلى البيني بين المجتمعات، وهي مرحلة لم يمر بها تاريخ العرب الحديث بهذا التوسع وهذا العمق، هي جديدة من حيث الشكل. فالصراعات السابقة كانت اقتصادية واجتماعية (حتى في البلد الواحد)، واليوم أصبحت داخلية لها مظاهر مرعبة تبدو على شاشاتنا كل مساء، من أطفال ممزقة أجسادهم أو شيوخ يجرون أرجلهم جراً هرباً من قصف غير متوقع، ونساء لا يعرفن إلى أين المفر! العالم في نهاية المطاف ليس معنياً كثيراً بما يجري عندنا أو فينا، بعضه متعاطف لفظياً على مستوى الشعور الإنساني، ولكن الدول ومصالحها غير معنية بأي انشطارات تحدث في مجتمعاتنا.. نحن المعنيون بذلك، وأول مظهر الاهتمام منا يجب أن يقود إلى وعي أن هناك تشرذماً هائلاً يحدث في مجتمعاتنا، بعضه ظاهر وبعضه تحت السطح، يفاقم هذا التشرذم التدخل الخارجي الذي أصبح يعبث بمقدرات بعض بلادنا وبرضا تام من مسؤولي تلك الدول، لأنهم توجهوا لإنقاذ رقابهم مع غطس الوطن في وحول الدم. تلك الظواهر التي أسلفت في وصفها قد تستفحل وتكبر وتصبح ككرة الثلج لا مناص من وصولها إلى الجميع. لا أعرف إن كان ثمة ورقة بهذا المعنى قد قدمت إلى متخذي القرار في اجتماع القمة العربية الأخير في الأردن لتشخيص الداء العضال المصابة به الدولة الوطنية العربية، ولكن الكثير مما يكتب كوصفة علاج سريع هو أن تتوقف الدولة الوطنية العربية عن تجاهل المعضلة وتسعى إلى تبني ما نجح في رأب الصدع في أماكن أخرى من العالم، شهدت نفس الظاهرة، أو لديها نفس المكونات، وهو السير حثيثاً لبناء الدولة الوطنية القائمة على المساواة القانونية، ذات المؤسسات والمرجعيات الحديثة، مهما كان ذلك العلاج صعباً، فإن الخيار الآخر أن تطقطق قوى ما دون الدولة أصابعها لنا جميعا!ً
آخر الكلام:
حتى الآن الرسائل التي ترسلها الإدارة الأميركية الجديدة حول شؤون منطقتنا في حدها الأدنى متضاربة وفي حدها الأعلى تسمح لازدهار جماعات ما دون الدولة!