إميل أمين
كاتب مصري
TT

مصر... سردية عبور طريق الآلام

صباح أحد الفرحين «الشعانين» بحسب المفهوم المسيحي في شرق العالم وغربه امتدت الأيادي الآثمة المنتمية إلى تخوم الشر، لتحول البهجة إلى تعاسة وتصبغ أغصان الزيتون وخصلات السعف بلون الدم القاني، دم الأقباط والمسلمين، فقد سقط الضحايا المصريين داخل الكنائس وخارجها في مشهد لا تقبله أي نفس ذات فطرة سوية.
لم تجف الدماء بعد، ولم تتضح ملامح ومعالم هذا العمل الإجرامي، غير أنه دون تهوين أو تهويل يمكننا الإشارة إلى عدة نقاط أولية تساعدنا في فهم ما الذي حدث، ولماذا حدث، ثم وربما هذا هو الأهم ضمان ألا يتكرر من جديد.
من الواضح جدا أنه ومنذ شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي أي غداة تفجير الكنيسة البطرسية في قلب القاهرة، ومصر تعيش سردية مجيدة ورائعة من التصدي للإرهاب بأذنابه وأذياله المنفردة، ويبدو واضحا أن هناك علاقة طردية ما بين النجاحات الأمنية والإصرار على إلحاق الأذى والضرر البالغ بمصر والمصريين.
يعتبر الإرهابيون من الدواعش خاصة الذين أعلنوا مسؤوليتهم عن عمليات الأمس، أقباط مصر البطن الرخوة التي من خلالها يستطيعون أن يوجهوا السهام القاتلة للمحروسة، لعل ذلك يساعد في نظر هؤلاء الإرهابيين المجانين في زرع روح الفرقة بين أبنائها وشق نسيجها المجتمعي، وتشتيت وحدتها، وهو سراب لو يعلمون.
توقيت عملية الأمس لا يخلو من معنى ومبنى، إنه يواكب الاحتفالات المسيحية المعروفة بأسبوع الآلام الذي يسبق عيد الفصح، وهنا فإن العقول الشريرة تحاول أن تفسد بهجة المصريين كافة، سيما أنها تستبق عيد شم النسيم، ذلك اليوم الذي يمثل المعين الحضاري للمصريين جميعا.
تأتي عمليات تفجير كنائس طنطا والإسكندرية بعد عدة أحداث مهمة، وفي مقدمتها النجاحات الساحقة للقوات المسلحة المصرية في مواجهة الإرهاب والإرهابيين في سيناء، وتبدو كأنها تحاول أن تقطع الطريق على مصر الناهضة كما العنقاء من الرماد، لتستعيد دورها الإقليمي والدولي في محاربة محاور الشر، وقد كانت الزيارة الأخيرة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى الولايات المتحدة انتصارا دبلوماسيا كبيرا لمصر 30 يونيو (حزيران) الرافضة للقوى الرجعية التي من معينها خرجت كافة الجماعات الإرهابية.
هناك من يحاول أن يعمق الشرخ في الداخل بين الأقباط والمسلمين، عبر استهدافهم في كنائسهم وبيعهم وأديرتهم، وفي أيام أعيادهم، متخيلا أنه بذلك سيشق الصف، غير أنه فاته الكثير، فمصر عصية على الفتنة، وما حدث في أغسطس (آب) من عام 2013 من حرق لكنائس مصر، واجهه البابا تواضروس بالقول: إننا نعتبر دخان الحرائق بخورا يصعد للسماء فداء لمصر، وإنه إذا حرقت الكنائس سنصلي في المساجد، وإذا أحرقوا المساجد سنصلي جميعا في شوارع مصر وحاراتها وأزقتها.
محاربة الإرهاب مستمرة وسيعقد في مصر نهاية أبريل (نيسان) الحالي مؤتمر السلام العالمي الذي يقيمه الأزهر، وهو الأول من نوعه في العالمين العربي والإسلامي، بحضور بابا الفاتيكان البابا فرنسيس ولقائه مع الدكتور أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر، وستكون فيه الكلمات التي ستلقى داعية لوحدة الصف الإنساني في مواجهة العنف والتطرف، وسيكون هذا المؤتمر ردا على الإرهابيين الذين هم ضد التعايش الإنساني، وأعداء القيم الإنسانية.
ما الذي يريده هؤلاء من الذئاب المنفردة ومن العقول المشبعة بالغواية ودروب العماية؟
يبدو للناظر بعمق أن نواياهم تتسق والتهويمات الخلافية والرؤى الشقاقية التي بدت في الدوائر الفكرية الغربية من عينة برنارد لويس بطريرك الاستشراق المغشوش، مرورا بصموئيل هنتنغتون صاحب دعاوى تأليب العالم بعضه على بعض بذريعة تصادم الثقافات، وصولا إلى مشعلي شرارة حروب الأديان من اليمينيين والشعبويين.
ما جرى في مصر أمس ليس فصلا مستقلا عما يدور حول العالم، إنه حلقة مفرغة من الكراهية تلف فيها قوى تهدد أمن وسلام العالم، فقبل أيام معدودات كانت السويد، وقبلها لندن، ونيس، ومدن ألمانيا، وخبرناه في ذئاب أورلاندو الخاطفة في الولايات المتحدة الأميركية، ما يعني أننا وبحق إزاء حرب عالمية تشنها أشباح الإرهاب بطرق وآليات غير تقليدية.
لا يحتاج المشهد إلى مزيد قراءة المراثي التي يتلوها الأقباط في صلواتهم خلال هذا الأسبوع، بل تقتضي اللحظة الراهنة تناديا عالميا وليس مصريا، لبلورة معالجة أممية للإرهاب الذي صار بدوره ظاهرة كوسمولجية تتهدد القاصي والداني.
أما مصر فالأمر جلل حقا ويتطلب إعادة قراء مجتمعية للخطابات السائدة دينيا وثقافيا، إعلاميا ومجتمعيا، عطفا على ترتيب أوراق المنظومة الأمنية بطريقة ابتكارية تستبق تفكير الإرهاب بخطوات لا خطوة واحدة.
مهما يكن من أمر سيظل الخير أقوى من الشر، والحب أقوى من الحقد، ولتبقى مصر أمس واليوم وإلى الأبد مصونة في اللوح المحفوظ.