إميل أمين
كاتب مصري
TT

زمن الأرمادا وحروب الجنرالات

مَن صاحب القرار الحقيقي اليوم في البيت الأبيض؟ رسمياً يبقى الرئيس دونالد ترمب ولا أحد غيره، مع تعاظم سطوة الجنرالات في الوقت نفسه، فيما يتقلص دور من وصفتهم «النيويورك تايمز» بقادة الثورة الآيديولوجية المفترضة في الرئاسة الجديدة، وفي المقدمة منهم مستشار ترمب المقرب ستيف بانون الذي أقاله مؤخراً من عضوية مجلس الأمن القومي، ولمّح لاحقاً إلى احتمالية الخلاص منه.
علاقة الجنرالات بترمب ظاهرة للعيان منذ أن تحول ترشيح الرجل إلى حقيقة، تكللت بالنصر، والقول بأنهم ساعدوا وساندوا رجل الأعمال الشهير للولوج إلى المنصب رقم واحد حول العالم، به كثير من الصحة.
بدأ ترمب بصيغة دولية أقرب ما تكون إلى اليوتوبيا السياسية التي لا تعرفها البراغماتية السياسية الأميركية التقليدية، سواء جهة روسيا – بوتين، أو عدم الاكتراث بإزاحة الأسد من موقعه. غير أن المشهد وقبل مرور المائة يوم الأولى له رئيساً للولايات المتحدة تغير، حين عبرت صواريخ توماهوك وكروز سماوات المتوسط لتقصف مطار الشعيرات.
قبل بضعة أيام وفي أعقاب القصف الأميركي لسوريا، كان السؤال الذي يشغل ولا يزال المتابعين من المحللين الاستراتيجيين للشأن الأميركي: «هل قصف سوريا رسالة تتجاوز حدودها إلى آخرين، في مقدمتهم كوريا الشمالية والصين على نحو خاص»؟
مثير جداً شأن الرئيس ترمب، حال استخدامه مصطلحات لا علاقة لها بمجال تخصصه ونجاحاته في «عقد الصفقات».
إنه يتوعد كوريا الشمالية بأن «أميركا سوف ترسل أرمادا» إلى هناك لردع نظام بيونغ يانغ. مَن بحث في أوراق التاريخ ووقف بترمب على ناصية الأرمادا، أي «الأسطول الذي لا يهزم»، في استعارة من الزمن القديم للأسطول الإسباني العظيم، الذي أطلقه الملك فيليب الثاني ARMADA تحت قيادة دوق مدينة سيدونا، وتم تجميعه في عام 1588 لغزو إنجلترا؟
الجنرالات وحدهم هم الذين يدركون المعنى والمبنى للأرمادا، وهم الذين أرسلوا إلى سواحل كوريا الجنوبية حاملة الطائرات «كارل فينسون» وعلى متنها 24 طائرة (F18) و10 طائرات تزويد بالوقود، و10 طائرات مضادة للغواصات، و6 مروحيات تكتيكية مضادة للغواصات، و4 طائرات استطلاع، و4 طائرات إنذار مبكر، وطراد، ومدمرتان مجهزتان بأجهزة الكشف المبكر.
هل «أرمادا ترمب» يهدف إلى حصار كوريا الشمالية فقط، أم أن الجنرالات يبعثون برسالة لراعي بيونغ يانغ، أي الصين؟
ليس سراً نذيعه إن قلنا إن هناك ثورة للجنرالات داخل البنتاغون، شهدنا بعض فصولها في العامين الأخيرين من ولاية أوباما الثانية.
جنرالات الأرمادا، لديهم خط واضح يسير وراء استراتيجية المحافظين الجدد للقرن الحادي والعشرين، الساعية لصبغ المائة عام القادمة بلون وطعم العلم الأميركي، والتي تبلورت في 2010 تحت ما يسمى استراتيجية «الاستدارة نحو آسيا».
حكماً أن قادة البنتاغون لم يكونوا راضين يوماً عن فساد النخبة الليبرالية السياسية في الداخل الأميركي، ولهذا كان انقلابهم على الحزب الديمقراطي بنوع خاص، والبحث عن جمهوري يتطلع لحروبه الخاصة التي يثبت فيها قوته، كأي رئيس أميركي يريد أن يكتب اسمه في سجل القياصرة.
الذهاب إلى كوريا الشمالية ليس نزهة، والصدام مع بيونغ يانغ قد يشعل حرباً عالمية نووية، وحتى في حال المواجهات التقليدية تدرك واشنطن أن لديها نحو 28 ألف جندي في كوريا الجنوبية، وضعف هذا العدد في المناطق المجاورة سيما اليابان، وجزيرة غوام.
يدرك العقلاء في واشنطن، أن كيم جونغ أون شخص غير متوقع، ولا دليل له على الحكمة، والإجراءات التي يتخذها في الأيام الأخيرة، مثل إجلاء ستمائة ألف نسمة من العاصمة، تشي بأنه راغب في مواجهة مع واشنطن مهما كانت الخسائر.
هل الأرمادا رسالة لبكين، أكثر منها للكوريين الشماليين؟
تبقى العصا والجزرة، سيف المعز وذهبه، قصة تقليدية دائماً وأبداً في الكلاسيكيات السياسية للدول العظمى، فترمب يغازل الصين بصفقة تجارية كبرى إن ضغطت على الجار الذي تزوده بالوقود ثلاثة أيام بثلاثة أيام، وإلا فإن غواصات الجنرالات وبقية قطع الأرمادا يمكنها أن تقوم بالباقي.
يرفض «جنرالات الأرمادا» توسع هيمنة بكين في بحر الصين الجنوبي، وأسوأ سيناريو يخشونه هو تلاحم أو تعاون عسكري روسي – صيني، ولهذا رأينا مسبقاً أن ترمب يسعى لحلف «أميروسي»، بينه وبين بوتين، لفك الارتباط بين بكين وموسكو، وقد كان ذلك قبل التوتر الأخير بين الرجلين من جراء الضربة الأميركية لسوريا.
يحتاج المشهد إلى مهارة تحليلية بالغة لفهمه، إن كان يخضع لأي من القواعد العقلانية أو الخطوط الواقعية في التعاملات، لكن الواضح أن الارتباك لا يسود واشنطن فقط، بل موسكو كذلك، وهناك ما يشاع عن أوضاع بوتين داخل الكرملين، وعلامات استفهام حول مستقبله السياسي. وفي هذه الأثناء تبقى بكين تنتظر في هدوء «كونفوشيوسي» تقليدياً، المنتصر من الطرفين، لتلاقيه في مباراة المبارزة على القطبية العالمية.
إلغاء الثورة الآيديولوجية في السياسة الخارجية الأميركية، ورأس حربتها ستيف بانون، يجعل العقلية العسكرية هي التي تدفع حكومة ترمب للأمام. وحتى إن كان الجنرالات لا يسعون لحروب برية في آسيا، فإن شيئاً لا يمنع من تدخلات عسكرية أميركية محدودة، قد تأخذنا لأعماق الصراع. الخطر ليس في الحروب، بل في التصعيد الذي يشجعه الجنرالات، والذي وصل إلى حد استخدام أكبر قنبلة غير نووية في أفغانستان قبل يومين. إنه زمن أرمادا الجنرالات الأميركيين.