مشعل السديري
صحافي وكاتب سعودي ساخر، بدأ الكتابة في الصحف السعودية المحلية، ثم في صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، تتميز كتاباته بالسخرية اللاذعة، ويكتب عموداً ثابتاً في «الشرق الأوسط».
TT

بين الصدق والكذب

قرأت هذه الحادثة (المفبركة)، التي جاء فيها اختصاراً:
بينما كان حطاب يجمع الحطب ويصنع منه أكواماً قبل نقله إلى بيته، إذ بشاب يركض ويلهث من التعب، فلما وصل إليه طلب منه أن يخبئه تحت أحد أكوام الحطب كي لا يراه أعداؤه الذين هم في إثره يريدون قتله، فقال الحطاب: ادخل في ذلك الكوم الكبير، فدخل وغطاه ببعض الحطب، وبعد قليل أبصر الحطاب رجلين مسرعين نحوه، فلما وصلا سألاه عن شاب مر به قبل قليل ووصفاه له، فقال لهم: نعم لقد رأيته وخبأته عنكما في ذلك الكوم، ابحثوا عنه فإنكم ستجدونه.
فقال أحدهم للآخر: إن هذا الحطاب الخبيث يريد أن يشغلنا في البحث عنه في كوم الحطب الكبير هذا ليعطيه فرصة للهرب، هيا نسرع للحاق به. ومضيا في طريقهما مسرعين، ولما ابتعدا خرج الشاب من كوم الحطب، فقال معاتباً الحطاب: كيف تخبئني عندك وتخبرهم عني، أليس في قلبك شفقة أو رحمة؟! فقال الحطاب: يا بني إذا كان الكذب ينجي فالصدق أنجى. انتهى.
هم يقولون: حبل الكذب قصير، وهذا صحيح إلى حد ما – أي ليس في كل الأوقات - وما أكثر الكذابين الذين أصبح الكذب لا هوايتهم فقط، ولكنه أصبح مهنتهم، وبواسطته تبوأوا أرفع المناصب، ولولا ذلك لما أنشئت هيئات لملاحقة «الفساد» في كل الدول.
ولولا الكذب (قولاً وعملاً)، لأُغلقت المحاكم، وأفلس القضاة، وأصبح المحامون يلطمون ويشقون جيوبهم.
والكذب على فكرة ليس سهلاً، إنه يحتاج إلى ذكاء خارق، واحترافية خلاقة، ولا أنسى أحد سماسرة العقار (الله لا يذكره بالخير) عندما اشتريت منه قطعة أرض بكل ما جمعته في حياتي، ولم يمر على شرائي غير سنة واحدة، حتى اتصل بي يزين لي بيعها عندما زاد سعرها 30 في المائة، وترددت في بيعها، فما كان منه إلا أن قذف في وجهي بيت الشعر هذا: «إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة، فإن فساد الرأي أن تترددا»، عندها لعب الغرور برأسي وتصورت أنني «ذو رأي وذو عزيمة» ووافقت على الفور وبعتها، واليوم تضاعف سعرها 1000 في المائة، وشيدت عليها عمارة من ثمانية طوابق، وكلما مررت عليها أدرت وجهي من شدة الندم.
ومثال آخر يثبت أن الصدق ليس في كل الأحوال منجياً، وذلك عندما تحليت به، وفتنت على زملائي المشاغبين في الفصل - أي كشفت ألاعيبهم - عند مدير المدرسة، فما كان منهم في الفسحة إلا أن تكالبوا علي و(دغدغوني) – أي ضربوني - .
وهذا هو ما نابني من (الصدق).