رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

الشعبويات والسياسات الخارجية للدول

كان لافتاً للانتباه هجوم البابا فرنسيس الأول في خطابه بمؤتمر الأزهر للسلام العالمي بمصر، على الشعبويات، باعتبارها تعكس ميولاً عنصرية، وتُصادم الأديان والأخلاق. وهو يقصد بالطبع التقلبات الكبرى في أمزجة الفئات الشعبية في الديمقراطيات الغربية بأوروبا والولايات المتحدة. بيد أن المراقبين الأميركيين والأوروبيين لا يزالون مختلفين بشأن تأثير تلك الشعبويات في السياسات الخارجية للدول. فالرؤساء والمرشحون اليمينيون للرئاسات والبرلمانات يركِّزون للحصول على أصوات الناخبين على أمرين اثنين: قضية الأمن والإرهاب، والقضايا الاقتصادية الداخلية. فوجهة نظر الرئيس ترمب أن المسلمين يشكّلون تحدياً أمنياً، سواء أكانوا مواطنين أميركيين، أم أنهم يريدون المجيء إلى الولايات المتحدة. وما نجح بعد فوزه بالرئاسة في اشتراع إجراءات ملموسة تتعلق بالمسلمين في الداخل الأميركي، كما أنه عندما حاول ذلك مع القادمين من عدة دول إسلامية؛ فإنه ووجه بقضايا دستورية وقانونية عدة حالت حتى الآن دون سريان أوامره الرئاسية. على أن الأجواء العامة تُشعِر بأنه مع الوقت ستنجح هذه الإجراءات في زيادة الضغوط على مسلمي الداخل (وكثيرون منهم تحت الرقابة الآن ومن أيام أوباما)، وستقلُّ بالفعل أعداد القادمين إلى الولايات المتحدة من الخارج. لكن السؤال هنا: هل ستؤثر الميول الشعبوية على السياسة الخارجية الأميركية تجاه الدول الإسلامية مثلاً؟ حتى الآن لا يبدو ذلك. بل إن الرئيس الأميركي الجديد يميل إلى تحسين العلاقات مع باكستان وتركيا والسعودية، وهي دول حليفة للولايات المتحدة، كان الرئيس أوباما قد جفاها أو صادمها. ثم إنه ولأسبابٍ متعددة عاقب النظام السوري على استخدام الكيماوي ضد شعبه، وهو الأمر الذي تجاهله أوباما كما هو معروف. وهو يتابع سياسة أوباما في إعطاء الأولوية لمكافحة الإرهاب، لكنه يخالفه في التعاون أكثر مع الدول العربية والإسلامية التي عانت وتعاني من الإرهاب، مثلما عانته الولايات المتحدة وأكثر. وهكذا، فإنه ورغم الشعبوية الظاهرة المصادمة للمسلمين؛ لا يستخدم تلك الميول في تحديد سياساته الخارجية. بل يتجلّى شعاره: أميركا أولاً في السياسة الخارجية، بمطالبة الدول التي يعتبرها غنية بالدفع أكثر في مقابل الحماية، وفعل هذا حتى مع ألمانيا! وهو عندما يفعل ذلك سواء نجح أم لم ينجح، إنما يريد أن يثبت لجمهوره بالداخل أن القوة الأميركية المكْلفة، يمكن أن توفّر موارد، ما كان الرؤساء السابقون - من وجهة نظره - مهتمين بتحصيلها لالتهائها عنها برسالة أميركا العالمية في الحرية والسلام! وبذلك، فيمكن أن يقال حتى الآن على الأقل إن الشعبوية في أميركا ما أثرت في تغييراتٍ ظاهرة في السياسات تجاه العرب والمسلمين، ولا تجاه الصين وروسيا على سبيل المثال. ولذا؛ فإن الاستهدافات لا تزال داخلية بالدرجة الأُولى، أما السياسات الخارجية فالعامل الرئيسي للتأثير فيها هو الموقع العالمي للولايات المتحدة.
ولننظر في المشهد الأوروبي. هناك هذا الاستهداف الدعائي والإعلامي الذي يمارسه المرشحون، وعلى رأسهم لوبان. وبغض النظر عن نجاحها في الوصول للرئاسة أو عدمه؛ فإن الانكماش عن سياسات دمج المسلمين بالداخل الأوروبي يتفاقم. وقبل أيام اشترع الألمان بدعة منع النقاب على الموظفات في أجهزة الدولة. ثم إنه ما عاد من المتصور أن تُقْدم ميركل مرة أخرى على استيعاب مليون مهاجر ومهجَّر بالداخل الألماني. فالضغوط على العرب والمسلمين زادت في سائر الأقطار الأوروبية. وقد أخبرني عرب في السويد بأنهم ما تجرأوا على الخروج من منازلهم لأيام عدة بعد الحادث الإرهابي المعروف، لتشدد الشرطة مع المختلفين بالشكل في الشارع. وهكذا، فيمكن القول في المجال الأوروبي أيضاً إن النطاق سيضيق على المسلمين أكثر؛ وبخاصة أن الأوروبيين - أكثر من الأميركيين - يميلون لاشتراع قوانين تقييدية للحريات أو الظهور المختلف في المجال العام. أما في العلاقات بين الدول؛ فإن المستشارة الألمانية ميركل كانت في السعودية والإمارات، وقبلها أتت رئيسة الوزراء البريطانية مرتين إلى دول الخليج. ثم إن وزير الخارجية الألماني في اجتماع مالطا الأوروبي دافع بشدة عن استمرار العلاقات الحسنة مع تركيا وبخلاف ما قرره البرلمان الأوروبي، ورغم تصريحات إردوغان المثيرة عن نازية الألمان وغيرهم من الأوروبيين مثل الهولنديين والبلجيك! إن الشعبويات الصاعدة أثرت وستؤثّر إذن على مسلمي الداخل الأوروبي، لكنها في الغالب لن تؤثر على السياسات الأوروبية الخارجية في العلاقة مع الدول العربية والإسلامية. وهذا يعني من جهة أن العلاقات الخارجية للدول تقوم على المصالح البعيدة المدى. لكنه يعني من جهة أُخرى أن الشعوبيات ذات همومٍ وأولوياتٍ داخلية بالدرجة الأُولى.
لكن، ماذا عن الشعبويات في الدول الإسلامية؟ إن أكبر الشعبويات في جوارنا هما في تركيا وإيران. وفي الدولتين الكبيرتين حصلت «انتخابات» أو ستحصل قريباً. ففي تركيا كان هناك استفتاء على تغيير النظام من برلماني إلى رئاسي. وفي إيران تحصل انتخابات رئاسية بعد شهر ونيّف. تجلّت الشعبوية الإردوغانية لاستحثاث الناس على التصويت لخياره في أمرين: الهجوم على السياسات الأوروبية تجاه تركيا واتهامها بالفاشية والتمييز لدفع أتراك المهاجر للتصويت لخياره. والهجوم على حزب العمال الكردستاني باعتباره يريد تقسيم تركيا بالقوة. وقد كانت النتائج متواضعة. فخيار إردوغان حصل على واحد وخمسين ونصف في المائة، وخيار الذين لا يريدون النظام الرئاسي حصل على ثمانية وأربعين ونصف من مائة. ومع ذلك، فإن الموضوعين كانا داخليين بالدرجة الأُولى، وما تعلقا حقاً بالسياسة الخارجية لتركيا تجاه الأوروبيين أو تجاه الأميركيين مثلاً. والدليل على ذلك أن وزير خارجية تركيا سارع إلى حضور اجتماع مالطا الأوروبي، وأشاد بالألمان والأوروبيين الآخرين الذين كانوا بشوشين تجاه تركيا، ووافقوا على استمرار التفاوض بين تركيا والاتحاد الأوروبي، وهي المفاوضات المستمرة من أربعين عاماً وأكثر!
أما عند النظام الشعبوي الآخَر، أي النظام الإيراني؛ فإن مرشحي الرئاسة خاضوا مناظرة تلفزيونية صمت خلالها مرشح المحافظين الأول الشيخ رئيسي، أما مرشح المحافظين الثاني قاليباف فقد خاض جدالاً مع منافسيه روحاني ونائبه حول موضوعات داخلية بحت، مثل الأسعار وفرص العمل والسكن وزواج الشباب. ونحن نعلم أن الجيوش والميليشيات الإيرانية والمتأيرنة تقاتل في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وقد فقدت الآلاف وهجَّرت وقتلت مئات الآلاف. ومع ذلك فإن أحداً من المرشحين ما شعر بالحاجة إلى كسْب الشعبية من طريق تأييد أو معارضة السياسات الخارجية التي من المفروض أن روحاني هو المسؤول الرسمي عنها! وحتى الاتفاق النووي مع أميركا ما كان موضع تقديرٍ من روحاني أو إدانة من خصومه، رغم حملة الإدارة الأميركية على الاتفاق، وعلى الأموال التي حصلت عليها إيران بنتيجته دونما وجه حقٍ وفق الإدارة!
هل في هذا كله عزاءٌ أم أمل؟ لا هذا ولا ذاك. لكن السياسات الانتخابية لدى الشعبويات الجديدة والقديمة، لا تزال سياسات داخلية. والأرجح أن تبقى كذلك، مهما تغيرت أمزجة الشعوب.