محمد الرميحي
أستاذ الاجتماع السياسي في جامعة الكويت. مؤلف عدد من الكتب حول مجتمعات الخليج والثقافة العربية. رئيس تحرير مجلة «العربي» سابقاً، ومستشار كتب «سلسلة عالم المعرفة». شغل منصب الأمين العام لـ«المجلس الوطني للثقافة» في الكويت، وعضو عدد من اللجان الاستشارية في دولة الكويت. مساهم بنشر مقالات ودراسات في عدد من الصحف والمجلات المختصة والمحكمة.
TT

اليوم التالي بعد القمة!

بالطبع هي قمة في الرياض غير مسبوقة، والبيان الختامي لها مؤشر على جديتها، كما كانت خطابات الزعماء، واضحة ومختصرة، وتعني التصميم على المضي في طريق الوقوف أمام التحديات. صاحب القمة جهد آخر، جهد الرأي المضاد إن صح التعبير، فقد لعبت وسائل الإعلام الجديد دورا سلبيا باتجاهين، الأول يمكن أن يصنف بأنه غير موجه، وتلقائي من أناس إما سذج أو لا يعرفون على وجه اليقين ماذا يدور حولهم، فاهتموا كثيرا بالشكل وضيعوا وقتهم ووقت الآخرين بتوافه القول، أما النوع الثاني، وهو ما تهمني الإشارة إليه هنا، فقد كان جهدا منظما ودؤوبا وله أهداف سياسية، وأقصد به ذلك السيل العارم من الإشارات والعبارات والكاريكاتير وتراكيب الصور المصاحبة ذات المعنى السلبي المباشر، التي كانت تصب في (محاولة تسطيح الجهد) الذي بذل في جمع هذه الدول، والتوافق معها وبها للوقوف صفا واحدا للدفاع عن مصالح شعوبها، ذلك الجهد المنظم في وسائل الإعلام يعني أن هناك (ماكينة) تعمل خلفه، وهي ماكينة ضاقت ذرعا بما يحدث فقررت التشويش عليه بكل الوسائل معتمدة على ضعف مناعة المتلقين، وكيف يقدمه للناس. تركز ذلك الجهد على مكانين، الأول هو ما سمته تلك الماكينة بشكل عام (الابتزاز) أو استنزاف الموارد، وبدأت تقول: إن السيد دونالد ترمب هو في الأساس رجل تجارة ومال، ويريد أن ينقذ الاقتصاد الأميركي شبه العليل، وهذا المنحى يجد آذانا صاغية لدى جمهور غير محصن لا بالمعلومات ولا بالوعي، مما يهيئ كثيرين لتقبل تلك الأفكار، على أنها معطى لا يرقى إليه الشك!
أما المنحى الثاني فيركز على المشكلات الني يوجهها السيد دونالد ترمب في الساحة السياسية الأميركية، بل يذهب هذا البعض إلى القول أنتم تعقدون صفقة مع رجل وربما إدارة مؤقتة، يعتمد من جديد مثل هذا المنحى على بعض ما يكتب أو يذاع في الولايات المتحدة، يعظمون ما هو سلبي، ويتجاهلون ما هو إيجابي. كلا المنحيين يتغذى على نظرية معروفة اليوم في فضائنا الثقافي/ السياسي، وهي نظرية المؤامرة، التي شبعنا من نشاز عزفها. ربما جزء من الانتشار والقبول السريع لتلك الأفكار أن المحورين (الصفقات) و(المشكلات التي تواجه الرئيس) كلاهما فيه جزء يسير من الحقيقة، ولكنه مغطى بطبقة كثيفة من لي عنق الحقيقة، وعند الفحص المعمق لا تقف تلك الادعاءات على أرض ثابتة من الواقع. الصفقات هي احتياج للمشتري والبائع، بل إن المشتري ما لم يتوفر ما يحتاجه من السوق الأميركية، لكان قد لجأ إلى أسواق أقل جودة، وربما أقل كفاءة، فالولايات المتحدة اليوم هي المُصنع الأكثر جودة وذات التقنية الأحدث، أما (المشكلات) التي يواجهها الرئيس، فهي وإن كانت جدية، إلا أن الكثير من الآراء التي تظهر اليوم حتى في التحليلات الأميركية، ترى أن تلك الادعاءات لا ترقى إلى احتمال خروج الرئيس. والسيد دونالد ترمب ممثل لجمهور عريض من الشعب الأميركي، فقد استطاع أن يهزم في الانتخابات التمهيدية كبار زعماء الحزب الجمهوري، كما استطاع أن يفوز في الانتخابات على الرغم من الماكينة الديمقراطية، هو إذن يعبر عن مرحلة في المزاج الأميركي العام، كما تقول لنا الدراسات إن ذلك المزاج بدأ في التغير مع أزمة 2008 الاقتصادية الحادة، ونما ذلك التغير منذ ذلك الوقت أمام عجز الليبرالية الأوبامية عن أولا معرفة ما يجري من تغير في المزاج الأميركي العام، مع تجاهل ثانيا المشكلات العالمية التي طال إهمالها ومنها مشكلات مزمنة في الشرق الأوسط.
هذا التحليل يقود إلى القول: إن ما نشاهد في سياسة السيد ترمب هو تعبير عن حاجة أميركية، وليس استجابة لصفقة ما، أو خوفا من فقد المكانة. الدليل الأوضح في نوعية وكفاءة مساعدي الرئيس من أصحاب الرأي هو التوجه إلى تنشيط جدي للسياسة الأميركية خارج الحدود، وليس فقط تنشيط الاقتصاد داخل الحدود، هؤلاء يمثلون جزءا من المزاج الأميركي، وهم المناط بهم تنفيذ السياسات الجديدة.
بقي أمر مهم آخر، وهو معرفة الإدارة الجديدة بحقيقة ما يجري في الشرق الأوسط، وهو أن الجانب الغربي لإيران (المنطقة العربية) قد ضاقت ذرعا بالتوسع الإيراني، لا لأنه يحمل أفكارا مذهبية، ولا لأنه يطمح إلى توسيع للنفوذ، بل أكثر من ذلك بكثير، هو مساهمته الفعالة في ازدهار الإرهاب، حيث شعر كثيرون أن ذلك التعصب والتطاول الإيراني، خاصة في استخدام ذراع إرهابية (حزب الله) والحشد الشعبي، لا يرده غير أفعال من جنسه، وأن الإرهاب جزء لا يتجزأ من نتائج الهجمة الإيرانية غير المبررة على الجسم العربي، تلك الهجمة من جهة تساند نظاما في سوريا أثخن في قتل شعبه وشرده، ولولا التدخل الإيراني في الأساس لما وصلت الأمور إلى هذا الوضع المأساوي من حجم التعاسة للسوريين، كما من طرف آخر، لولا مساندة نشطة لمجموعة حاكمة في بغداد في السنوات السابقة، لما وصل الأمر إلى تمدد «داعش»، واستعداد حاضنة كبيرة من المهمشين العرب للدخول في مشروعه، لقد ترك السيد نوري المالكي (رئيس الوزراء العراقي، المسنود كليا من طهران) ترك مئات الآلاف من المتظاهرين في العراء في صحراء العراق، يئنون من التهميش والإهمال، يصرخون لا مجيب لإنصافهم، هؤلاء وغيرهم أصبحوا تلقائيا حاضنة للعصابات الإرهابية، حيث ضاقت بهم السبل. أما في لبنان فقد عطل «حزب الله» المسنود من طهران الدولة اللبنانية، كما عطل آلياتها للتطور، إلى حد العجز، وأصبح الولاء لخارج الوطن اللبناني يُعلن للكافة جهارا، في بلد بني أصلا على الحفاظ على الكيان اللبناني في الميثاق المشهور، بل واعتبر ذلك الميثاق، أن أي ولاء خارج الكيان اللبناني هو بمثابة (خيانة للوطن). وفي جنوب الجزيرة تدخل السند الإيراني لمناصرة فكرة لفظها الشعب اليمني منذ أكثر من نصف قرن، وهي الإمامة في شكل تنظيمات ميليشيات الحوثي، وساندت إيران تلك الميليشيات ذات الأقلية العددية، كما ساندت رئيس سابق تخلص منه شعبه، فقط من أجل تمرير أجندتها التوسعية، ودخل الشعب اليمني في نفق ضيق. ليس ذلك فحسب، بل تدخلت إيران في معظم الجسم العربي المجاور تحت شعارات أخرى بعضها متناقض. في الطرف الآخر لا يحمل أحد عداء لإيران الشعب أو لإيران المذهب، هو فقط ضد توسع إيران الدولة تحت تلك الشعارات المتناقضة، وفي جلها تحت عباءة الخرافة والأساطير! وشراء شعور مزيف بالأمان، بسبب الشعور الدائم بعدم الأمان!
معرفة الإدارة الأميركية والغربية بهذا التكوين العبثي من التوسع، وأنه أصل الشرور، يعني أن مسار الخريطة السياسية بدأ يتغير من (قبول أوبامي) معتمد على مقولات تسكينية، إلى رفض ترمبي معتمد على المصالح العليا لكل دول الإقليم والولايات المتحدة، ومن جانب على معرفة بمسيرة التاريخ. ذلك هو مجمل اليوم التالي للقمة. إنه يوم مختلف عن أمسه.
آخر الكلام:
ما الذي يجمع ظاهرة دونالد ترمب بظاهرة إيمانويل ماكرون، كلاهما يعني أن الاختراق في الفضاء الغربي للتشكيلات السياسية التقليدية، والنماذج التي سيطرت على التفكير السياسي، هو جزء من نتائج كارثة وصدمة 2008 الاقتصادية! لقد تغير المزاج!