بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

غزة تنهار... الكل مسؤول

عندما يُعثر على رجل سبعيني العمر مقتولاً فوق سطح بيته بطعنات سكين، ثم إن أول المُشتبهين بارتكاب فعل الجريمة هو ابن القتيل، فلا جدال أن ذلك مؤشر على وجود خلل ما بأي مجتمع يشهد جرماً شنيعاً كهذا. مذهولاً، رحت أطالع الخبر ضحى أول من أمس غير مرةٍ، أسعى لإقناع النفس بأن ما وقع البصر عليه عبر مواقع ما يُسمى «التواصل الاجتماعي»، هو واقع حصل في قطاع غزة، وليس خيالاً أو أضغاث حلمٍ. أحياناً، يكاد الكاتب، أي كاتب، أن يصاب بسأمٍ، أو قل باليأس، وهذا أسوأ، إزاء الفائدة من تكرار تناول موضوع محدد فيما لا يلمس أي جديد في الأمر، سوى للأسوأ. أعتقد أن هذا هو حال الكتابة في شأن قضايا عربية عدة، بينها بل في مقدمها، مآسي قطاع غزة، المُبتلى أهله بها منذ احتلال هزيمة 1967. لكنها، واحسرتاه، مآسٍ تضاعفت أضعافاً بعد تراجع «بسطار» المحتل، وانحسار هيمنته، لتحل محله سلطة أخذ فساد بعض أفرادها ينهش دولتها حتى قبل أن تثبّت قدميها على ما تحرر من الأرض.
أصدفة هي، أم أنه نوع من العبث، عندما تنوح ألسنة كثيرين من أهل القطاع بعبارات من قبيل: من «فتح»، إلى «حماس» يا قلب لا تحزن؟ كلا، ليست هي بالصدفة، وما هو بعبث، بل في ذلك انعكاس لحزن تقرّح في قلوب الناس مذ راح قابيل الفلسطيني يقتل أخاه هابيل، منذ زمن سبق مَولد «حماس»، إذ هما زمنذاك يمارسان الرحيل يتلوه رحيل ركضاً وراء سراب دولة «بساط الريح»، كما سماها الزعيم الراحل أبو عمار، فإذا بهما يقتتلان بدءاً من شوارع عمان وصولاً إلى مخيمات لبنان، ثم سرعان ما تنهمر قبلات «عفا الله عما سلف»، فقط إلى حين. بضعة أشهر، أو بضع سنين، ثم يعيد الجمعُ الكَرّة من جديد، وتتقاذف أرجل المتصارعين كُرة أحلام الفلسطينيين ومستقبلهم. هذا يسجل الهدف في مرمى حليف إيران، وذاك يسدده في المرمى المقابل، ليس مهماً مَنْ المَرمِي بويل الحصار، ومَنْ المكوي بنار انقطاع الكهرباء، أو شح الماء، فالقيادات المجاهدة، المناضلة، المسؤولة، سمِها ما شئت، تسافر متى شاءت وأنّى تشاء، ليس عليها أي غبار، وحدهم بسطاء الناس، الأكثرية الساكتة، الأغلبية الصامتة، أو قل المقهورة على أمرها، عليهم انتظار الفَرَج آتياً عبر فتح معبر رفح، حتى حجاج البيت الحرام، لا يدرون هل يمن عليهم بالخروج أم يُحرمون تأدية الفرض، بلا ذنب جناه أي منهم ومنهن، سوى أنهما ينتميان لجزء من أرض فلسطين اسمه قطاع غزة.
ثم، أهو من المصادفات، أم هي سخرية الأقدار، أن تحذّر أجهزة أمن إسرائيل ذاتها، من قرب انهيار قطاع غزة؟ كلا، ما هي مصادفات، ثم إن الأقدار ليست تسخر، بل الأرجح أنها تسير وفق خطين، أحدهما يوازي الآخر. هناك أولاً قدر الخالق ومشيئته. وهناك، ثانياً، أفعال الخَلق وما تجره عليهم، إنْ بفتح أبواب الخير، أو طرق باب الشر. حين سُئل أقوام غابر الأزمان عما أصابهم من سوءٍ ذات صبح، أقر عقلاؤهم أن ذلك كان جزاء ما اقترفت أيديهم مساء أمسهم، فأصبحوا على ما فعلوا نادمين. تُرى، عندما تُسأل قيادات أحزاب وحركات الفلسطينيين وجبهاتهم، عما فعلت من السوء بشعبها، ليس في قطاع غزة والضفة الغربية وحدهما، بل كذلك في المخيمات حيثما وُجِد مقر شتات، هل أنها ستقر بدورها فيما آل إليه مصير شعب أجْهِض حقٌ له مشروع في وطنه على أيدي غاصبين ساندهم كبار المتآمرين، ثم أتى بعض بني أهله، فأفسدوا حلمه حتى فوق بضعة أمتار من أرض أجداده؟
سواء أقروا أو لم يفعلوا، ليس ظلماً لهم وما هو مبالغة القول إن المحتل الإسرائيلي قتل محمد الدرّة بزخات الرصاص أول مرة، فشُيِّع الصبي مكللاً بالفخار، وأطلق اسمه على شوارع ومدارس وجمعيات، ثم جاء انقسام القيادات وصراعاتها كي يصرعه ألف مرة، ولا يزال. تُرى، أيعقل أن يصل الأمر حد طعن أب بسكين الابن، ويتنافس شح ماء الشرب، مع شُح الكهرباء، فيما الساسة بالسفر ينعمون، وفي عقد التفاهمات منهمكون، بل بينهم من ينزل بمصحات أوروبية متخصصة في تنزيل الوزن، ألا تفيقون يا سادة، أم تواصلون صراعاتكم فلا تقيمون أي وزن لغير أنفسكم؟