ليونيد بيرشيدسكي
TT

على الاتحاد الأوروبي رفض عودة من اختار «بريكست»

رغم كل ما ساقه لنا الساسة البريطانيون لجعلنا نصدق «أن (البريكست)، أو الخروج من منظومة الاتحاد الأوروبي، قرار لا رجعة فيه»، فقد تحدث قادة الاتحاد الأوروبي مؤخراً عن أن تراجع بريطانيا عن قرار «البريكست» بات احتمالاً وارد الحدوث. في الواقع، يأتي تغيير الموقف البريطاني كجرس إنذار لكل من يعنيه استمرار الاتحاد الأوروبي منذ التصويت الذي جرى عام 2016.
الأسبوع الماضي، صرح رئيس وزراء مالطا جوزيف موسكات بقوله «للمرة الأولى بدأت أصدق أن (البريكست) لن يحدث. الآن بدأت أرى علامات مشجعة بأن المد آخذ في الانحسار». ويعتبر موسكات من العالمين بتفاصيل «البريكست»، حيث رأست بلاده اجتماعات الاتحاد الأوروبي في يناير (كانون الثاني) الماضي. ومن جانبه، قال رئيس الوزراء الآيرلندي ليو فاردكار عندما سئل الاثنين الماضي عن «البريكست»: «حسناً، أتمنى ألا يحدث ذلك مطلقاً». ويعتبر فاردكار أيضاً من أكثر الملمين بتفاصيل «البريكست»، بسبب الحدود التي تشترك وتفصل بلاده عن المملكة المتحدة والتي تعتبر من أكثر القضايا الشائكة التي تجري بشأنها المفاوضات حالياً.
في الحقيقة، هناك أسباب قوية تجعل الساسة البريطانيين، سواء في الحكومة أو المعارضة، يدلون بتصريحات متباينة في هذا الشأن. فالدعوة إلى إجراء استفتاء جديد على الاستمرار في عضوية الاتحاد الأوروبي لم تضف شيئاً للحزب الديمقراطي الليبرالي في الانتخابات التي جرت في يونيو (حزيران) الماضي، حيث تعهد غالبية الرموز الكبيرة باحترام نتائج تصويت «البريكست». لا أحد يريد المبادرة بطرح قرار العودة حتى وإن أظهرت بعض استطلاعات الرأي أن غالبية البريطانيين سيصوتون للبقاء داخل منظومة الاتحاد الأوروبي. لكن القادة الأجانب، مثل موسكات وفاردكار، ليسوا مكبلين بتلك القيود، ولذلك فتفاؤلهم المفاجئ يؤشر لتحرك الأرض خلف الكواليس.
لكن على هؤلاء الذين يتمنون عدم خروج بريطانيا من الاتحاد، مثلما هي الحال بالنسبة لموسكات وفاردكار، توخي الحذر فيما يتمنون.
فبعد عملية تطهير النفس التي جرت عام 2016، فإن الاتحاد الأوروبي يبدو أقوى اقتصادياً وسياسياً، لكنه لا يزال مرتبكاً في تحديد أهدافه وحتى رسم قيمه الأساسية، وهو ما اتضح جلياً في النزاع الجاري بين أوروبا الغربية والشرقية. فالجناح الشرقي، بقيادة بولندا والمجر، يدفع تجاه مزيد من الحكم المستبد، ومزيد من الإجراءات التعسفية للمحافظة على تماسكهم العرقي، فيما يستند الجناح الغربي إلى القيم الليبرالية التقليدية ويتعامل بلين أكثر مع مسألة الهجرة رغم الضغوط من أحزاب اليمين. هناك كثير من الانشقاقات الكائنة بالفعل، وهناك الكثير منها التي تظهر بين الفينة والأخرى. والآن هناك توتر مفاجئ بين فرنسا وإيطاليا بشأن قرار فرنسا منع استيلاء شركة إيطالية على حوض سفن كبير. ولم تأت محاولة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التدخل لحل الأزمة السياسية الليبية - وهي المهمة التي اضطلعت بها إيطاليا بين دول أوروبا - بفائدة تذكر.
ويحاول الاتحاد الأوروبي بدوله الكبيرة رسم خط مشترك واضح لمستقبل المنظومة الأوروبية، ولذلك فوجود قوة مركزية طاردة هو آخر ما يحتاجونه، وتمثل المملكة المتحدة تلك القوة في ظل مؤسستها السياسية الحالية. فحتى قبل أن يتحول «البريكست» إلى حقيقة سياسية، كانت المملكة المتحدة تحظى بأقل الأصوات في عضوية «مجلس الاتحاد الأوروبي». والآن وفي ظل ملايين الأصوات التي صوتت ضد البقاء داخل منظومة الاتحاد، فسوف تبدو بريطانيا الأكثر مناهضة للاتحاد الأوروبي كإطار فيدرالي. كذلك تعتبر المملكة المتحدة أكثر الدول انسحاباً وتراجعاً عن تأييد السياسات المهمة للاتحاد - مثل اتفاقية «شينغن» التي تسمح بحرية التنقل بين الدول الأعضاء وتداول اليورو، وميثاق حقوق الإنسان. وكانت قدرة المملكة المتحدة على اتخاذ كل تلك المواقف الفردية مصدر إلهام لدول أوروبا الشرقية التي ينظر صفوة أبنائها من المتحدثين بالإنجليزية إلى بريطانيا نظرة إعجاب وانبهار، ومن ثم يسعون إلى السير على خطاها. فلولا النموذج البريطاني، ربما كانت عملة اليورو أكبر قيمة اليوم، ولذلك عندما يختفي هذا النموذج فسيكون من السهل على الاتحاد الأوروبي العمل على توحيد كيانهم لجعله يبدو أكثر اتساقا مع نفسه.
السيناريو الذي ستعود من خلاله المملكة المتحدة سيجعلها أكثر تواضعاً واستعداداً لقبول كل شيء - اليورو و«شينغن» وكل أحكام المحكمة الأوروبية - أو على الأقل تقديم بعض التنازلات. وقد يكون هذا ما عناه القادة الداعمون لأوروبا الموحدة، مثل ماكرون ووزير المالية الألماني وولفغانغ شويبل، عندما قالوا إنهم يرحبون بـ«العودة إلى الاتحاد الأوروبي». غير أن مثل هذا التقلب في الأحوال يبدو غير واقعي. فما دامت جراحة المخ لم تكتمل على طاولة العمليات، فلن يكون هناك مجال أمام البريطانيين لتغيير رأيهم في المستقبل القريب بعد فترة قصيرة من اتخاذ قرار المغادرة.
هناك سيناريو متاح أمام الجميع أفضل من «البريكست» أو العودة إلى مرحلة ما قبل الاستفتاء على «البريكست». سيشمل ذلك انضمام المملكة المتحدة إلى منظمة التجارة الحرة الأوروبية إلى جوار آيسلندا، وليختنشتاين والنرويج وسويسرا، وسيجري الاحتفاظ بالروابط التجارية والترتيبات التجارية الجارية إلى حد كبير، لكن المملكة المتحدة لن يكون لها صوت في أوروبا. ولن تكون المملكة المتحدة قوة طاردة بعد اليوم، مثلما الحال بالنسبة للنرويج. ورغم تأكيد المسؤولين البريطانيين على أنهم لا يضعون السيناريو النرويجي في الحسبان، فمن الأسهل العيش من دون عضوية كاملة - ربما لفترة انتقالية في البداية - ثم تحويلها إلى عضوية كاملة لاحقا، إذ إن البريطانيين لم يصوتوا ضد عضوية منظمة التجارية الأوروبية الحرة عام 2016.
فتجنب تفعيل «البريكست» سيكون أفضل من الدفع تجاه تنفيذها أو التراجع عنها.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»